هذا الجدل لم يعد تقنيًا أو إجرائيًا، بل تحوّل إلى اختبار حقيقي لميزان القوى داخل المجلس، وكاشف صريح لحقيقة التحالفات التي ظهرت في الجلسة السابقة ثم تلاشت عند أول امتحان.
فعدد الموقّعين على العريضة هو النقطة التي أفقدت المبادرة زخمها. فالمعارضة التي بشّرت برقم "65 نائبًا" قبل أسابيع، لم تتمكن من جمع أكثر من 39 توقيعًا على مطلب اعتبرته أساسيًا ومفصليًا لضمان اقتراع المغتربين. هذا الفارق الكبير بين التوقعات والنتائج عرّى حجم المبالغة الإعلامية التي رافقت الحديث عن "جبهة معارضة موحّدة"، وأظهر أنّ ما حدث في الجلسة السابقة لم يكن انتصارًا استراتيجيًا بل لحظة سياسية عابرة تقاطعت فيها مصالح عدة كتل ضد جدول أعمال واحد.
في المقابل، يتعامل الرئيس بري مع العريضة باعتبارها خطوة غير مُلزِمة سياسيًا. فالرجل الذي خبر إدارة الجلسات منذ ثلاثة عقود يعرف تمامًا أنّ قوة المعارضة لا تُقاس بالبيانات، بل بعدد الأصوات القادرة على فرض جدول أعمال أو تعديل مسار تشريعي. ومن موقعه، هو يدرك أنّ غياب كتلة صلبة تتجاوز الخمسين نائبًا يعطيه هامشًا واسعًا لافتتاح الجلسة في التوقيت الذي يريده، وبالشكل الذي يراه مناسبًا.
فتَقدُّم بري نحو الدعوة إلى الجلسة، حتى قبل وصول الورقة، يبعث برسالة واضحة أن إيقاع المجلس ما زال يُضبط من عين التينة، والمكتب هو الذي يحدد الأولويات، لا العرائض التي تأتي بأرقام غير مكتملة.
بهذا المعنى، استطاع بري أن يعيد التموضع بعد الضجيج الذي رافق الجلسة السابقة، ويُظهر أنّ ما اعتبرته بعض القوى "انتصارًا" كان في الحقيقة "فقاعة سياسية" انفجرت سريعًا عند أول استحقاق عملي.
لكن الأهم أنّ هذه المواجهة تكشف ضعفًا بنيويًا داخل المعارضة نفسها. فالعريضة التي كان يُفترض أن تكون مناسبة لتظهير وحدة الكتل المعارضة، تحوّلت إلى ميزان دقيق أظهر حجم التباعد بينها، وتردد قوى أساسية في الدخول في معركة لا تملك ضمانات حقيقية لربحها داخل الهيئة العامة.
في النهاية، تبدو الجلسة المقبلة أشبه بامتحان جديد، من يملك القدرة على فرض المسار التشريعي؟ ومن يحدد الأولويات؟ ومن يتحكم بالإيقاع داخل المجلس؟ حتى اللحظة، كل المؤشرات تقول إنّ الرئيس بري سيفتح الجلسة، وأنّ المعارضة ستضطر للتعامل مع واقع أنّ قدرتها على الضغط ما تزال محدودة ومجزّأة، فيما السلطة التشريعية تسير وفق قواعدها التقليدية التي لم تتغير رغم كل الضجيج السياسي والإعلامي.