Beirut
16°
|
Homepage
محنة العقل في "الأحزاب"
جورج طوق | المصدر: ليبانون ديبايت | الجمعة 14 شباط 2020 - 9:23

"ليبانون ديبايت" - جورج طوق

لا يخْلُوَنَّ معمّمٌ بسياسةٍ تحلّ له، أو لا تحلّ له، فإنّ ثالثهما شيطان التكفير.

مع دوام اكتمال نصابه، شكّل هذا الثلاثي المشؤوم تحالفًا مصلحيًّا، عمره من عمر القدير على اختلاف كتبه، ولعبت فيه السلطات الدينيّة دائمًا، مرجعًا رسميًّا لتمرير المراسيم التنفيذيّة للتكفير، تماهيًا مع شياطين السياسة فوق رؤوس القدريّين. بقي الدين واجهة التكفير الحصريّة حتّى صعود الأحزاب في لبنان وتخصُّصها بجزءٍ يسيرٍ من المهمة.


لم تأتِ قيامة أحزاب لبنان في سياق العمليّة الإجتماعيّة لتطور الفكر المجتمعي والسياسي، بل جاءت قناعًا رديئًا، إرتدته الإقطاعات القبليّة والماليّة والطائفيّة على وجه السرعة، لزوم دخول الحفل التنكّري لولادة الجمهوريّة الّتي فرضها الإنتداب عقب فوز تحالفه بالحرب العالميّة الأولى. أعادت ميليشيات الطوائف سيناريو الأقنعة الرديئة عند جفاف منابع رصاصها المجّاني أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، عقب إنهاء الحرب الأهليّة الّذي فرضه تفاهم الوصايات في الطائف. أحزاب لبنان هي بوضوحٍ خلطةٌ متقنةٌ من الإقطاع والميليشيا. إقطاعٌ أنتج ميليشاته وميليشياتٌ تحوّلت إقطاعًا، وتنكّروا أحزابًا سياسيّةً بنكهتي الإلهين؛ الله والمال.

ليس العقل، تاريخيًّا، من نقاط القوّة عند الولاء الديني أو الإقطاعي، ناهيك عند الولاء للإثنين معًا كما هي حال الولاء الحزبي في لبنان. تأتي عقائد الأحزاب غالبًا، مثل عقائد الأديان، غير قابلةٍ للتشكيك، أو حتّى للتدقيق. تُعتنق مثلها أيضًا بفعل إيمانٍ بسُموِّ الزعيم، لا بمحاجّات الحزب الفكريّة، وتُحال أيّ علامة استفهامٍ حولها إلى التكفير. التكفير الحزبي هو، بما لا يقبل الشكّ، نتاج عاملَيْن إثنين؛ غياب الحجّة عند مُطلقِه، وهاجس الإقتناع بصوابيّة الرأي الآخر.

يدرك قادة الأحزاب في لبنان طبيعة ولاءات أتباعهم. لا يتوجّهون إليهم إلّا جماهيريًّا، حيث التواصل المباشر والنقاش بحدودهما الدُنيا. فهُم يتقنون فنّ التأثير على مخيّلتهم الجماعيّة، لا سيّما طائفيًّا، وذلك، حسب المؤرّخ وعالم الإجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، يكفي لإتقان حكمهم. زعماءٌ يُطبقون على مفاصل أحزابهم بغياب الديموقراطيّة داخلها، وبالديموقراطيّة خارجها يُطبقون على مفاصل البلاد. وبين زعيمٍ داهيةٍ وجمهورٍ هاذٍ، تستفحل محنة العقل في الأحزاب.

كيف لجماهير حُرمت من إنتخاباتٍ داخل حزبها، أن تعود لتنتخب له ثلاثين نائبًا؟!! ليس هذا التساؤل الغريب محصورًا بالتيّار الوطني الحرّ. جذب التيّار جماهيره الواسعة قبل سنوات المنفى بخطابٍ على ثلاث ركائز؛ لفظ الميليشيات، مكافحة الفساد ومحاربة النفوذ السوري. عاد بعد المنفى ليعاضد الثلاث. إلتفافةٌ فائقة الحدّة، لم يستغربها محازبٌ واحد. يبدو جليًّا أن قدر التيّار البرتقالي أن يقول الشيء وعكسه على الدوام. لم لا؟ فالجماهير تهلِّل، بالحماسة نفسها، للمتضادّات، إن خرجت على لسانٍ معصوم. إنّما الزعيم دائمًا معصوم.

تسلّلت الطائفيّة والعنصريّة والذكوريّة ورهاب المثليّة ومخلّفاتٌ بائدةٌ أخرى، بكلّ خفّةٍ، إلى أدبيّات كوادر التيّار وأمست جماهيره بإمرة رئيسٍ ورث بالمصاهرة تاجًا أهمل رأس زوجته، وفي ذلك كمٌّ وافرٌ من الإقطاعيّة والكثير من الذكوريّة. رئيسٌ لم يستطع، رغم فائض القوّة المستعارة من حليفه، أن يظهر بطلًا إلّا فوق صفحات قصّةٍ مصوّرةٍ أنتجها هو بمال وزارةٍ شغلها. يُحال كلّ مُساءلٍ إلى التكفير، وأحيانًا إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة. ليس هناك من هو أسوأ من جبانٍ يشعر بفائض القوة.

على مقلبٍ آخرٍ، لم يحصل، بأيّ مكانٍ في العالم، أن إلتصقت فيه الإشتراكيّة بمذهبٍ دينيٍّ والتقدّميّة بإقطاعٍ عائليٍّ كما فعلت مع الزعامة الدرزيّة الأولى في لبنان. إستمرّت زعامة الحزب التقدّمي الإشتراكي بدعامة خزعبلة حماية الدروز، فيما حقيقة الأمر، من زاويةٍ أوسع، أنّ الدروز هم من حموا زعامة آل جنبلاط، وليس العكس صحيحًا. بعيدًا عن السياسة، قد يكون وليد جنبلاط المناصر البيئي الوحيد في العالم الذي يمتلك معمل إسمنت. لم يلحظ أيٌّ من جماهيره في الأمر أيَّ مفارقةٍ، فقبول المتضادّات هو أحد أسوأ عوارض محنة العقل في الأحزاب. شتّان ما بين حماية المساحات الخضراء في الجبل وامتلاكها.

تصبح الصورة، عند الحديث عن التيّار الأزرق، أكثر دراماتيكيّة. بنى الزعيم-الأب حلمه ببيروت فوق كوابيس أهلها، فسُلبوا حجارتها وحُرموا ارتياد رحابتها إلّا مرّةً كلّ أربع سنوات. زياراتٌ إنتخابيّةٌ طوعيّةٌ بباصات الذل، كفلت له ديمومة حرمانهم فانصياعهم. حلمٌ إكتنف وسط البلد حديقةً خلفيّةً للقصور الفارهة. جاهر التيّار مرارًا بتعليم كثيرين. لم يجد أيٌّ منهم فرصةً واحدةً للعمل بتحصيله العلمي إلّا خارج البلاد، ومن بقوا إنشغلوا بهتافاتٍ باردةٍ زرقاء أو بإشتباكاتٍ ومحاور حامية. أهدت جماهيرٌ بمئات الآلاف عهد الإبن، بعد إستشهاد والده، زخمًا غير مسبوق. أهدره كما يهدر المنخل الماء. عهدٌ إستهلّه بشطب ضرائب إرثه فيما إستهلّته جماهيره بالسير خلف نعش أبيه. نادرًا ما تعاظمت محنة العقل في رأس حزبٍ لبنانيٍّ أكثر ممّا فعلت في رؤوس جماهيره.

يبلغ دمج المتضادّات في الحياة الحزبيّة في لبنان، أحيانًا، معدّلاتٍ ظلاميّة، إذ لم يسجّل التاريخ سابقةً لدولةٍ، ترأّس رأس التشريعيّة فيها ميليشيا. لم تكن هذه التعويذة لتصبح واقعًا لولا النكهة الطائفيّة لشمّاعة رفع حزام البؤس عن المحرومين. بعد أكثر من ربع قرنٍ في الحكم المتمكِّن، إتّسع قطر الحزام واشتدّ وِزره وما زال المحرومون على الوعد باقين. لم تُثر معادلة التناسب العكسي بين إمكانات الزعيم المادّيّة وبين إمكاناتهم حفيظة أحدٍ منهم. جماهير تهمل للزعيم تقاعسه وتُمهله ربع قرنٍ وأكثر. فما أضيق العيش، أيّها المحازبون، لولا فسحة "أمل".

لم تغفل محنة العقل حزبًا واحدًا في لبنان. رفع إقطاع آل الجميّل، بعد أن أنتج ميليشياته، ثلاثيّة "الله والوطن والعائلة". لم يصدقوا إلّا بالثلث الأخير منها، ولم تلحظ الجماهير، على مدى أكثر من سبعة عقودٍ، أنّ شعارهم أغفل عائلاتهم و إختُصر بعائلة الزعيم. زعامةٌ أضحت بجيلها الثالث، وذلك في عالم الأحزاب، على عكس عالم التكنولوجيا، لا يدلّ على تطوّرٍ نوعيّ.

على خطٍّ موازٍ، حملت القوّات، الميليشيا الّتي تحوّلت إقطاعًا، البندقيّة والصليب في قداديسها والفظائع على حدٍّ سواء، ثمّ أخفت الإثنين وانهمكت بعمليّات التجميل. إعتذر الزعيم فسامحوا أنفسهم. لم توقن الجماهير أنّ الإعتذار لا يصبح ساري المفعول قبل قبوله. لا يهمّ، فبعد أن يقول الزعيم، لا شيء يُقال.

قد لا يجد التاريخ، في فصوله عن الأحزاب، ما يوفي حزب الله غرابة توليفته. لا سيّما دخوله الفظّ، بكامل أناقته الميليشياويّة، إلى عقر دار رسميّة السلطة. ترى جماهير الحزب والمؤازرون له في كفاءة وانضباط عناصره تطمينًا ثابتًا للمناهضين له. في الواقع، أكثر ما يخيف العاقل بالبنى العسكريّة غير الرسميّة هما كفاءة وانضباط عناصرها. ليس النقد لمعاضل واقع حزب الله سائغًا أو حتّى آمنًا بعد. لعلّ في ذلك دلالةً وافيةً على محنة العقل فيه مثل باقي الأحزاب في لبنان.

في الكلام عن "محنة العقل في الأحزاب" شيءٌ من المحاكاة التهكّميّة على عنوان كتاب مصطفى جحا. "پاروديـــــا" قد تجعلها عقول الأحزاب محاكاةً قاتمة.
تابعوا آخر أخبار "ليبانون ديبايت" عبر Google News، اضغط هنا
الاكثر قراءة
"الرجل الطيب الودود"... الحريري ينعى زوج عمته 9 بعد كشف ملابسات جريمة العزونية... بيانٌ من "التقدمي الإشتراكي"! 5 الحقيقة بشأن جريمة باسكال سليمان 1
"سوريا الثورة" تثير البلبلة في البترون! (صور) 10 كلاب بوليسية وانتشار أمني... ماذا يجري في الضاحية؟ 6 بو صعب خارج "التيّار" رسميًا! 2
في جونية... سوريّون يسرقون مخزناً للبزورات! 11 وكالة اميركية تتحدث عن تلقيح السحب بِفيضانات الإمارات! 7 الحزن يخيم على عائلة الحريري! 3
نائب يتعرض لوعكة صحية! 12 "ما زلت أحفظ شيئاً من الود"... وهاب "يهدّد" خلف الحبتور! 8 إشكال وجرحى في بلدة لبنانية... ما علاقة "الزوجة الثانية"؟! (فيديو) 4
حمل تطبيق الهاتف المحمول النشرة الإلكترونيّة تواصلوا معنا عبر