"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

فشلت كل محاولاتنا في غسلِ الدولة. أَخفقت كلُّ غسالاتِ العالم في تنظيفها. دولة ملبوسة سابقاً. مفتوقة ومخزوقة ومُخَوزَقَة. تحملُ بقعاً طائفيةً وقحة مقاومة للنظافة. تقاومُ كلَّ مساحيقِ الغسيل. لا صابون بلدي ولا مستورد أثّرا فيها. دولةٌ ناصعةُ الوساخة وبشهادة منشئ وسيرةٍ فاسدةٍ معترفٍ بها دولياً. دولةٌ مبَكّلةٌ ومُرَستَقَةٌ نلبسها كلَّ يوم على عِلّاتها وبُقَعِها وروائحِها الكريهة. دولةٌ نفركُها بالمطيبات والعطور والخزامى والحَبق فتزدادُ عطناً. ننقعها بأغاني الرحابنة فتخرجُ أكثر اتسّاخاً من خنزير يمضَغُ وجبةَ براز. نعكُّها بالأيدي ونغليها بالثورة فتصرُّ على قرفِها وعفنِها. دولةٌ ممسحة باتَ يقتصرُ استعمالُها على تلميعِ أحذيةِ الزعماء ونفضِ الغبارِ عن سياراتهم المفيّمة. أرخصُ من قرش مقدوح وأضيَقُ أفقاً من خرم إبرة. دولةٌ تأكلُ أولادها بشهيةٍ في النهار وتشربُ من دمِهم ليلاً. قَبَّتُها رثَّت. أزرارُها اقتُلِعَت وعُراها تفتّقت. ننشرُها على حبلِ غسيلٍ كلَّ مساء فتنشرُنا على حبلِ الكذبة كلَّ صباح.

دولةٌ تتبوّلُ على نفسِها. تضعُ حفاضات الطائف حتى لا يتسرّبَ حيضُها. بعض حكّامها تخرّجوا من جُوَر صحية. من حَماماتٍ توقَّفَ شطفها منذ عقود. يفوحون بالآسِن. أكثَرُهُم عفافاً مومِس. أصدَقُهم بينوكيو. أوفاهُم بروتوس. صفقاتها مشودرة بالسّمسَرة. مراسيمُها مهرَّبة وتعييناتها توزيعُ حِصص. حدودها البرية فخذان مالِحان يستطيبُ كلَّ سابٍ سَبيَها وفضَّ سيادَة هيبَتِها. التهريب عبرها ثقافة. البِغال والحمير شيمتها. يمتطيها المهرِّبُ والمخرِّبُ والمجرِّب. دولةٌ عجزت منذ مئة سنة عن إنارة أوتستراد واحد وصيانة إشارة سير واحدة. دولةٌ مطفيّةٌ ليلاً ومنوَّرة نهاراً. دولةٌ تجلدُ المواطنَ بالفواتير ويجلدُها المواطنُ بسرقة مواردها على عينك يا فاجر. دولةٌ بنكهة المازوت والبنزين. أسعارهما مدعومةٌ بالتهريب وموزّعةٌ بصهاريج موزعةٍ بالعدل والقسطاس على أعضاء المافيا. دولةٌ يموتُ فيها الأوادِم ويعمّر فيها السفلة والزعران وقُطّاعُ الأعناق والأرزاق. شواطئها مكبّاتٌ للبقر النافق والسمك المسرطن ومربّعاتٌ سياحيةٌ مملوكةٌ من المافيات والكارتيلات.

دولةٌ مزدحمةٌ بالكنائس والمساجد ومقفرةٌ بالدين. مدجَّجةٌ بالعظات الدسمة وفارغةٌ من رغيف الخبز. دولةُ البرّادات الخاوية والإمعاء الخاوية. تعيشُ تحت خط الفقر. تنافسُ بيافرا وهاييتي ومجاهل الأمازون. يحرقُ فيها المواطنون أنفسَهم جوعاً وعوزاً وقهراً فتَشوي طغمةٌ من الحكّام الكستناء على قبّولةِ جثامينهم. لا يعقصُها برغوث وممتلئةٌ بفضاوة البال. تزدهرُ في الحروب وتفتقرُ في السلم. عِملَتُها مسخرة. صرّافوها أقوى من بنكها المركزي ومن وزراء المال. مصارفها باعةٌ ومقامرون وليرتُها تتضخّمُ كالبروستات. مستشفياتُها فنادقٌ للمحظيين. جامعاتُها تبيعُ الشهادات للأغنياء. مؤسساتُها الرقابية مُراقَبة. قضاؤها قَدَرُها. موظّفوها موزّعون على الأديان السماوية. آلافٌ مؤلّفَةٌ مِن الإداريين بلا موهبةٍ ولا حسّ مسؤولية ولا روح خدمة. كلّهم إلا قلة قليلة يرون الدولةَ خِرجاً وخزنةً ومحفظةً وكونتواراً للسمسرة. دولةٌ يكثرُ فيها المرافقون والسائقون والمرافقون الشخصيون مفتولو العضلات المفتولون والنواطير ومعقِّبو المعاملات والأوفيس بوي ويرحلُ عنها العلماءُ والأدباءُ والمفكرون والمبدعون. دولةٌ تنتشرُ فيها مكبّات الزبالة أكثر مما تنتشرُ فيها مزارات القديسين وتماثيلهم. غيومُها مؤكسدة. ترابُها مسرطَن. مخلوطةٌ بالجراثيم قبل كورونا ولقاحُها مستحيل.

دولةٌ تدعو نفسها للحوار. تحاور ذاتَها المؤبّدَة والمؤلَّهَة. تلعب دور الموالي والمعارض في مسرحية يلعب على خشبتها ممثل واحد. يضحك ويبكي . يصرخ ويهمس. يقسو ويلين ويكذب ويصدق في آن. دولة تجتمع بين الفينة والفينة تخوّف الناس من الفتنة وتفتن. يحذرنا أمراء حروبها السابقة من الحروب اللاحقة. تتباهى الدولة بعرض عضلات طائفي. تبشّرنا بالمؤامرة. المؤامرةُ هذه العاهرة التي تلاحقنا ليلَ نهار. تنامُ في تل أبيب وتصحو في دمشق وتتجدّبُ في طهران وتشربُ النسكافيه في واشنطن ثم تحطُّ في بيروت لتمارسَ بغاءها. المؤامرةُ التي يجب أن نخافَ منها شئنا أم أبَينا والتي يجب أن تُسكِتَنا وتقنِعَنا أن الحاكم حَكيمٌ وأننا ندينُ له مدى العمر لأنه جنّبَنا الفتنة وحيّدَ عنّا المؤامرة. بلدٌ مزوّدٌ باللقاءات الوطنية يشبِهُ سيارةً معطّلةً على قارعةِ الطريق. بِحاجةٍ ماسّةٍ الى كابلات بطارية وفرامل ودواليب لتسير قبل أن تتعطّلَ من جديد. دولةٌ لو جمّعنا فيها أعدادَ الدواليب المحروقة لصرنا أكبرَ دولةٍ مصدِّرة للكاوتشوك. دولةٌ حكومتها تعملُ بالسّحسوح. ممسوكةٌ برَسَن من زعيمِ المحلّة والقبضاي والأزعَر وكلُّ ذي لَقَب . يفلتُها حين يشاء فتزأرُ ويلجمُها ساعةَ يشاء فَينافسُ مواؤها مواءَ القططِ الشاردة في الأحياءِ الفقيرة.

دولةٌ فريدةٌ من نوعها. فيها زوائد لا تراها في أي دولةٍ أخرى. تسافرُ فيها مرّةً في السنة. غداً ربما مرّةً كل عشرين سنة مع ندرةِ خسوفِ الشمس. أقصى طموحُك أن تبلغَ جزيرةَ الأرانب. تحجزُ بطاقة سفرك لدى الصراف. صار ممثلاً حصرياً لشركات السياحة والسفر في لبنان وقريباً يوحّد جهوده معها في نقابة واحدة تجمعُ سعرَ صرفِ الليرة والبيرة. تقدّم لصرّاف درجة ألِف الوثائق فيعطيك قسط اولادك في الخارج. صرّاف الفئة باء يعطيك قسطاً من البحبوحة بالليرة لتشتري له الدولار وتعيده إليه آمناً مطمئناً. دولةُ الوقوف بالطوابير والإنتظار على أكشاكِ الصيارفة وعلى أبوابِ الحزن الذي يتجدَّدُ كالفصول ويتضاعفُ كتناسلِ العائلات الفقيرة. دولةٌ علَّمت مواطنيها كيف يرمون خادمات المنازل على أبواب السفارات. دولةٌ تنتحرُ فيها الخادماتُ من الطوابقِ الشاهقة واليأسِ الشاهق. دولةٌ تنبطحُ أمام سكرتيرٍ في صندوق النقد الدولي وتعجزُ عن مقابلته برقمِ خسارةٍ موحّد. دولةٌ لا تعرفُ كَم خَسِرت. لا تعرِفُ كَم هَدَرَت وكم صرَفَت. دولةٌ عاجزة عن إصلاحِ حافةِ طريق لن تعيّنَ هيئةً ناظمةً ولن تَجبي فاتورة. دولةٌ غبيَّةٌ لن تركّبَ عدّادات ذكية.

دولةٌ تستولي على جنى عمرك بوقاحة. تطلقُ على وقاحتها إسمَ هير كات. تعيدُك الى زمنِ البندق بو فتيل. تعلّمُك زراعةَ مساكبِ البقدونس. تشحّدُك الملح. تغلّي كيلو الكفتة حتى تكاد تشتريه في سوق الصّاغة. تضربُ المالكين بالمستأجرين والأخماسَ بالأسداس. تشتكي فيها للبوليس فيشتكي منك. تلعنُ فيها ساعةَ الإنجاب. تنتظِرُ فيها بفارغ الصبر أن يستردَّ الله أمانَتَه فتريحُ وتستريح.