"ليبانون ديبايت" - فادي عبود
تعتبر الصحافة الاستقصائية من الانواع المتقدمة والاساسية لفضح ملفات الفساد ، ولتمكين السلطة الرابعة من لعب دور أساسي في المحاسبة والمراقبة، ومع إستفحال الفساد السياسي ، تُشكّل الصحافة الإستقصائية أداة فاعلة في وجه مستغلي السلطة. الأمثلة كثيرة في العالم من Watergate منذ قرون الى باناما إلى يومنا هذا.
وعلى أثر التسريبات الأخيرة لـ "بناما ليكس"، وطريقة تعامل الإعلام المحلي معها، بدا واضحاً أننا بعيدين كل البعد عن الصحافة الإقتصادية الاستقصائية الموضوعية والفاعلة ، فمن أولى مميزات الصحافي الاستقصائي هي المعرفة الإقتصادية والوعي الإقتصادي التي تخوله من تحليل المعلومات وعرضها ، كي لا تتحوّل إلى نوع من التسريبات غير الواقعية والتي تهدد سمعة أشخاص من دون وجه حق .
فمن الواضح أنّ التسريبات الأخيرة لـ "بناما ليكس" تُظهر أنّ هُناك نوعٌ من الجهل الإقتصادي وعدم التحقّق من المعلومات التي سُربت ، والاسوأ سيطرة نظرية باتت رائجة مؤخراً بأن كل رجل أعمال هو حكماً فاسد، فيسقط عليه الحكم المبرم من دون إستئناف ، مما يعزز نظرية خاطئة في لبنان أن الفساد هو فقط مُتركّز لدى حيتان المال وكأنه لا وجود لبيرانا المال الذين ينهشون يومياً مبالغ تتخطى ما يأكله بعض حيتان المال أنفسهم.
ومعرض هذا الكلام ليس للدفاع عن حيتان المال ، فالفاسد فاسد مهما كان موقعه أو عمله ، ومن تمّتد يدُه على المال العام يجب أن تُقطع ، إن كان مبلغاً ضخماً او كان مبلغاً زهيداً، فعقلية الفساد واحدة ، وخاصة أن حالتنا تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في هذا المجال ، ففي مسحٍ أجرته منظمة الشفافية الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي ودول أخرى) أن مستوى الفساد قد ارتفع على مدى الاثني عشر شهراً الأخيرة، فيما إحتل لبنان المركز الأول بين الدول التي شملها المسح، إذ إن 92 في المئة يعتقدون بأن الفساد في لبنان قد ازداد السنة الماضية، كما يشير التقرير إلى أن واحداً من كل ثلاثة مواطنين دفع رشوة للحصول على خدمات أساسية، وواحداً من بين ثلاثة مواطنين من الذين تعاملوا مع المحاكم دفع رشوة أيضاً، وواحداً من كل أربعة أشخاص دفع رشوة في التعامل مع عناصر الشرطة.
وبالتالي فان الفساد منتشر من أعلى السلم نزولاً من دون إستثناء ، وعدم إلقاء الضوء أيضاً على الفاسدين الصغار هو سقطة إعلامية أساسيّة ، والتركيز على فئة تسمى رجال الأعمال ، مما يعزز شعور عام بأن الموظف البسيط هو حتماً فقير و يحق له قبض الرشوة ، المعالجة والمحاسبة يجب أن تكون شاملة وموسعة وغير محصورة للوصول الى محاسبة حقيقية في هذا السياق.
فمثلاً مما لفتني في تسريبات "بناما ليكس" هو التشهير بعائلة مثل عائلة الخليل لمجرد انها تمتلك شركة "أوف شور"، وقد ذكرت هذه العائلة تحديداً لانني أعرف تماماً مسيرتها، فهي عائلة صديقة لعائلتي ذاقت مُرّ الاغتراب مثلما فعل والدي، بحثاً عن فرصٍ أفضل. وبالتالي فإن ما ورد في "بناما ليكس" هو إفتراء واضح، والاسوأ أنّ لا متابعة لتأكيد المعلومات وغربلتها ، فتتحول الصحافة اللبنانية الى منبرٍ لتسريب المعلومات لا أكثر من دون لعب أي دور أساسي في تحليلها وإستثمارها بالشكل الموضوعي.
على الإعلام اللبناني أنّ يُجدّد طُرقه في التعامل مع الشؤون الإقتصادية في لبنان وشؤون الفساد ، فالصحافة الإستقصائيّة تُعدّ حجر الزاوية في أداء الصحافة لمسؤوليتها الإجتماعية بتحقيقها لمبدأ الرقابة والمساءلة والمحاسبة وكشف المستور، وهنا نعني الجميع، من أصغر موظف إلى أكبر مسؤول، لا أنّ تتحوّل الصحافة الى أداة إنتقامية تتحرك بحسب النيات والمزاج.
ويبقى على الصحافة أن تُعمّم جو الإنتاجية والوعي الإقتصادي الحقيقي والإبتعاد عن نظريات الحقد الإقتصادي وإعتبار كل رجل أعمال حتماً فاسد لكونه رجل أعمال إلى حد وصف إنسان برجل أعمال شتيمة وتهمة ، ويتحول كل صاحب شركة أو مبدع إقتصادي إلى فاسد حكماً في الذهنية الإقتصادية، فإبتكار المجتمع المنتج يبدأ من الاعلام وصولاً إلى السياسيات الحكومية فهي طريقة حياة وتفكير.
ومن الملفت للنظر أن قناة الجديد إعتبرت شركات الـ OFF shore هي شركات قانونية لا غُبار عليها سيما عندما تكون واضحة وأسهمها مسجلة باسم أصحابها بوضوح، وليس أسهم لحامله ووكالات عامة لمحامين لا يملكون الشركة بالفعل ، عندها يجب التحقق للوصول إلى المستفيدين الحقيقيين ، ولكن عندما يكون الوزير بو صعب يمتلك شركات بإسمه وأسم حرمه وأولاده بشفافية مطلقة ، فأين الخبر هنا الذي يستحق ذكر أسم الوزير بو صعب. أين الغرابة وأين الإستقصاء؟ وأين التُهم ولماذا تم ذكر وزير لم يخالف أي قانون ولم يقم بأي عمل يثير الشك. نتمنى على هذه المحطة وعلى بعض الصحف أن لا يكون الإستقصاء مبني على أحقاد إذ حان الوقت ليتم تغيير هذه الذهنية ، نعم يوجد رجال أعمال شرفاء وفكرة أن كل رجل اعمال هو فاسد حتماً خرّبت عشرات الدول في العالم ، حان الوقت لتغيير هذا النهج الذي لا علاقة له بمهنة الصحافة ولا بالصحافة الإستقصائية .
وهنا لا بد من المقارنة بين حيتان مال فاسدين وبيرانا مال فاسدين ، فكل حوت يوظف مئات البيرانا فلنبدأ بوزارة العمل والضمان والمرفأ والمطار ودوائر التسجيل من عقارات إلى سيارات ومفتشي الضرائب وحتى الشركات الخاصة التي تتمتع باحتكارات ، الإتصالات ، وكل رخصة في لبنان مهما كان نوعها وصولاً إلى المتاجرة بالبشر، عشرات الأمثلة عن سرقة المال العام.
الخلاصة اليوم أننا نحتل المركز الاول في الفساد على جميع الصعد، والمعالجة تتطلب تغييراً شاملاً لطريقتنا بالتعاطي مع العديد من القضايا، فلنخترع "لبنان ليكس"، لكشف كل عملية فساد ، ونستطيع تحقيق ذلك عبر إقرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات حيث يتحول كل مواطن إلى صحافي إستقصائي يتابع الملفات والموازنات والصفقات. ويصبح كل مسؤول تحت مجهر المواقبة مما يذكره كل يوم ان عمله يخضع للمحاسبة .
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News