"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
بدأت القصة حين قرّر رئيس التيّار الوطني الحرّ جبران باسيل شطب كل الترشيحات الرئاسية "الوسطية والمقبولة" التي سبق أن عمل على تسويقها، من زياد بارود إلى جان لوي قرداحي، مروراً بأسماء ليس أولها رئيس مجلس إدارة محطة LBCI بيار الضاهر، ولن يكون آخرها، لمصلحة العبور إلى إسماء أخرى تُشكل تقاطعاً مع قوى سياسية، لا سيما المسيحية منها، ولا تمت إلى شخصية "التيار" بأي صلة، وباقي القصة معروف: الاستثمار في المسيحيين وبالتالي قطع الطريق على سليمان فرنجية.
كان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يُراقب الحركة الباسيلية عن بُعد وعن كثب، وكان يُردّد أمام من يلتقيهم من زوار، ومن يجتمع معهم من كوادر وقيادات ومناصرين، ألا مفرّ لجبران باسيل من العودة إلى "الساحة المسيحية"، ولا بد له من العودة إلى القوات تحديداً للاتفاق معها.
مرات عديدة حاول باسيل طلب مواعيد من معراب، سواء عبر نواب "عونيين" ما زالوا يحفظون الخطوط معها، أو من خلال وسطاء، رجال دين أو أعمال، إشتغلوا خلال المرحلة المنصرمة على فكرة جمع الرجلين، دونما أن يقدم جعجع على منحه هذه الورقة، إنما كان يُطالب دوماً ليس بضمانات على إعتبار أن باسيل "غير مضمون"، إنما مزيداً من الموقف السياسية الواضحة. الواضحة في قاموس جعجع تبدأ بإيضاح علاقة باسيل المستجدة بحزب الله، وإيضاح موقفه من المعركة الرئاسية: هل هو متموضعاً ضمن الخيارات المسيحية، وينسجم معها ومستعد لتلبيتها أم لا؟
إذاً كان جعجع ينتظر مبادرات تأتيه من جبران. في المقابل، كان ثمة من يوصل إلى جعجع أن الأمور داخل التيار "ليست طيبة". ويبدو أن النزاعات ذات الشكل السياسي والمضمون الحزبي تتفاقم، وفي طريقها نحو الوضوح أكثر، وإذا ما إستثمر فيها "صح" قد تصل إلى الإنفجار. ولم يطل الأمر حتى قرّر جعجع النزول. إنها فرصته التاريخية للتخلص من "عث" أسمه التيار. قرّر زعيم القوات بدء الاستثمار، فوضع ماكينته في تأهب دائم وأوكلها مهمة ضخ المعلومات على نحو دائم حول تواصل يحصل مع التيار وتعظيمه، وبالتالي التركيز على تكبير المشاكل الداخلية العونية – العونية التي بدأت بالظهور تباعاً.
في هذه النقطة كان ثمة من يأتي إلى رئيس التيار، وينصحه بأن "ينتبه" إلى ما يرمي إليه جعجع. آخرون حذروه من عدم الوثوق لا بالقوات ولا برئيسها والالتفات إلى الأسباب التي جعلت من جعجع "ينزل" إلى جبران بالمعنى السياسي، فيما آخرون من الذين يترددون إليه دائماً، نصحوه بتوخي الدقة وإختيار عباراته بإتقان في شأن مقاربة المسألة الشيعية – الشيعية والعلاقات العامة مع هذا المكون، وعدم السباحة "عكس التيار" او بعيداً منه، وضرورة أن يبدأ بإرسال "تطمينات" إلى النخب الثقافية والسياسية والدينية ونزولاً إلى المستوى الشعبي الشيعي. لم يكترث باسيل أو الأصح لم يُمارس إلا قليلاً.
مع بدء النقاشات في أسم جهاد أزعور مرشحاً رئاسياً بعد تلقف باسيل الاسم من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي (المستقيل) وليد جنبلاط، كان سمير جعجع أول من رغب باسيل في "التقاطع معه". وهنا لا بد من الإشارة إلى كون فكرة التقاطع "من عنديات باسيل". سريعاً، إنقلب جعجع من معارض لاسم أزعور بعدما جرى طرحه عليه مراراً إلى مؤيد "نزولاً عند رغبة المسيحيين".
وهنا لم يبذل باسيل جهداً للتعمق أكثر في أسباب إنقلاب جعجع على ميشال معوض وصلاح حنين، فيما الحقيقة كان أن جعجع على علم بما يجري داخل التيار وبوجود رفض عارم لسياسات باسيل الجديدة تقف خلفها مجموعة أساسية هي في الأصل تدعى "مجموعة ميشال عون" أو مجموعة "العونيون القدماء" داخل التكتل، فأخذ جعجع يستثمر في زيادة الشرخ، عبر منح باسيل جرعات دعم من خلال الموافقة على خيار أزعور ودعمه، والتركيز على إعلان تطورات المفاوضات و "الرك" على خبرية حصول "تقدم دائم" في مسألة التوافق على أزعور، وإعتماد منطق التسريب شبه اليومي، وعلى أكثر من وسيلة إعلام، الذي أوحى أن باسيل هو صاحب الفكرة.
فيما بعد ومع تعمق النقاشات التي كانت احياناً ما تجمد ويُعاد تصوير باسيل على أنه سبب الجمود، لتعود إلى طبيعتها مجدداً، كان جعجع وماكينته يتقصدان إبراز أدوار باسيل في تقديم التنازلات وصولاً إلى تقديم شتى المساهمات في سبيل تعزيز فرص "التقاطع" على جهاد أزعور، فيما كانت هذه المعطيات تستخدم بدهاء في من جانب معراب في إطار محاولة إستفزاز حزب الله عبر الإعلام وإبراز أدوار حليفه. وعندما إنتهى الأمر بالاتفاق على أزعور، طلب إلى باسيل قواتياً وكتائبياً أن يقود القاطرة رغبةً في إظهاره المتبني الأساسي للفكرة ولتحميله نتائجها وتبيعاتها وكسلوك إستخدم في مواجهة حزب الله، فيما كان هو "منتشياً" أمام جمهوره.
كل ما تقدم كان محل رفض من مجموعة الـ5 داخل تكتل "لبنان القوي"، بما في ذلك منح جرعات تقوية لـ"جعجع" من خلال ممارسات باسيل، والتقدم أكثر فأكثر إلى ملعبه، وهو ما كان يزعج حزب الله تبعاً لنظرته إلى جعجع وقواته ولبعده مسافات ضوئية عن التيار. ولعل أبرز ما كان يدفعهم إلى توسيع معارضتهم، تأكيدهم الدائم والمستمر بإمتلاكهم للمعطيات، أن جعجع ذاهب إلى "نحر وذبح" التيار، عبر الراهن على تنمية وتطوير الخلافات التي لا بد أن توصل إلى تقسيم وإنشقاقات في صفوفه، وأولى النتائج سترتد إيجاباً لمصلحة القوات، التي ستربح إضعاف التيار شعبياً وسياسياً وإغراقه في الخلافات، ما سيكرس ضعفه النيابي، ثم تراهن على هذا الضعف في الأعوام المقبلة وصولاً إلى إنتخابات 2026، إذ يطبش جعجع طبشته القاضية "مشلحاً" التيار مجموعة أخرى من نوابه جاعلاً منه نسخة معدلة عن "الكتائب". ولا بد هنا من أن جعجع راهن على أن خلاف حزب الله – التيار لن يؤدي بالأول إلى تجيير أصوات لمصلحة الثاني، وثانياً عمل على عكس "التكتيك" الباسيلي الحالي، في العودة إلى الساحة المسيحية والاستثمار فيها ليقف في مواجهته.
عملياً، وجد باسيل صعوبة في وأد "الانتفاضة" الجارية من حوله، فإستدعى رئيس الجمهورية السابق ميشال عون بناء على إستشارة أحد المقربين منه. قضية لعل جعجع أكثر من إستفاد منها. فالمجموعة التي يُطلق عليها مجموعة "عون" أو "العونيون"، كان عون أول من أجهزَ عليها، فجعلها من دون ظهر سياسي، ومنح خدمة لجعجع "المنتشي". والآن تبدو هذه المجموعة عاجزة أمام تقدم القرارات التي يصدرها باسيل، ويملؤها الغضب و "الله يستر".
في المقام الثاني كان لا بد لعون من خلق توازن يُساعد جبران في الاستمرار والعودة إلى الساحة المسيحية بكل ثقله. ثمة من ألمح إلى "الجنرال" أن اللعب السياسي الذي يُمارسه جبران لن يقف عند حدود إزعاج حزب الله أو الشيعة عامة، بل سيبلغ سوريا التي حجزت لنفسها موقعاً في المنطقة كشريك مع السعودية. قد يكون عون، ومن خلفه باسيل راهنا على إمكانية أن يُقوّض التشارك السوري – السعودي الجديد أو الاتفاقية بينهما من حضور إيران وشريكها حزب الله في لبنان.
على أي حال توجه عون إلى سوريا، والتقى الرئيس بشار الأسد حاملاً مجموعة رسائل. ما يهمنا الشق السياسي – الداخلي الحاصل رغم نفي المكاتب الإعلامية. في البداية حمل رسالة من أن "التيار" والعونيين لن يكونوا في موقع مواجهة سوريا، وإنهما معها في نفس الخندق الاستراتيجي. في المقام الثاني حاول أن يصور للأسد من خلال الزيارة، أن التيار ولو "إقترب" من خصم سوريا التاريخي في لبنان رئيس حزب القوات سمير جعجع، لكنه لن يكون في معرض التحالف معه على حساب دمشق أو حلفاء دمشق، وإن مقتضيات إتفاق عام 2005 ما زالت سارية. وقصة الاقتراب من جعجع اليوم لها أسبابها وظروفها المسيحية.
في آخر المطاف عودة إلى التاريخ. عام 2005 وبعد إنسجاب الجيش السوري من لبنان، وعزم رئيس التيار الوطني الحر إنذاك ميشال عون العودة إلى بيروت، سافرت إحدى الشخصيات المعروفة التي حظيت بدور وساطة بين عون والسوريين والرئيس السابق إميل لحود إلى دمشق، وطلب موعداً من الرئيس الأسد. اقترح عليه أن يدعم عودة ميشال عون إلى لبنان، وطرح عليه فكرة قوامها أن عون سيغدو شريكاً في المستقبل لحلفاء سوريا في لبنان، وإن الفريق الآخر مقبل على إخراج سمير جعجع من السجن. ولخلق توازن لا بد أن يكون عون في مقابل (أو مواجهة) جعجع. إقتنع الأسد بالفكرة، وجعل أن طلب إلى رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود المساعدة في توفير أجواء عودة عون، وحصل ما حصل.
الآن... هل يدري "الجنرال" أنه وجبران باسيل يأخذان التيار نحو الذبح؟
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News