"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
لم يأتِ المبعوث الأميركي المؤقت، توم براك، بجديد يُضاف إلى ما سبق أن قدّمه في ورقته التي سلّمها في 19 حزيران الماضي. كذلك، لم يُنتج العقل اللبناني إضافات نوعية عمّا كان قد قُدِّم سابقًا. غير أن النسخة الجديدة التي سُلّمت إليه يمكن اعتبارها مزيجًا من أفكار سابقة مدعومة بشروحات جديدة، أو نسخة منقّحة وأكثر مرونة. وعليه، يصبح مفهومًا أن ما قُدِّم من جانب لبنان يشكّل أقصى ما يمكن أن يُقدَّم.
في الاجتماعات المغلقة، استُشفّ من بعض العبارات التي استخدمها براك، أنه جاد في مسعاه، وأنه يحمل ورقة أخيرة، جاء للحصول على أجوبة نهائية بشأنها. وقد تبيّن أنه يعكف على إعداد تقرير نهائي لتسليمه إلى واشنطن. وفُهم أيضًا أن جزءًا من زيارته يحمل بُعدًا شخصيًا، إذ بدا وكأنه يسعى، من جهة، لإقناع لبنان، ومن جهة أخرى لـ"هندسة" خطابه بطريقة تمحو الصورة النمطية التي تكوّنت عنه في زيارتيه السابقتين، وتشديده على وصف "حزب الله" بـ"الإرهابي" يدخل في هذا السياق.
طالب براك، في اجتماعاته، بحلول "صُنعت في لبنان" لمسألة سلاح المقاومة، وكرّر عبارته الشهيرة: "نحن هنا لمساعدتكم". في المقابل، أسقط فكرة "الخطوة مقابل خطوة" اللبنانية المنشأ، وذهب أبعد، داعيًا إلى اتخاذ قرار فوري بحصر السلاح بيد الدولة، يكون ملزمًا ونهائيًا.
هكذا، تتقاطع رغبات براك مع توجّه بعض "الرؤوس الحامية" في الداخل اللبناني، الذين يتوزّعون بين نواب ورؤساء أحزاب. هؤلاء الذين اصطفّوا في حفلة علاقات عامة، وتحوّل بعضهم إلى "طباخ"، كانوا يميلون أكثر إلى التعبير عن كونهم يمثلون، بالنسبة لبراك، "فريق عمل". وهم، على أي حال، وجدوا فيه ضالتهم، ومعه يدفعون في الاتجاه نفسه، أي إصدار قرار عن مجلس الوزراء بشأن "حصر السلاح"، ولو أدى ذلك إلى تجاوز رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي صوّتوا له بالأمس، منكرين موقفه الرافض لهذا التوجّه، لا بل المتوجّس منه، والذي يُعبّر عن خشية حقيقية. بل إنهم لا يمانعون حتى الانقلاب على رئيس الحكومة نواف سلام الذي سمّوه بأغلبية ساحقة، إذا ما شعروا بأنه يخشى تبعات أي قرار من هذا النوع.
هؤلاء أنفسهم تغاضوا عمّا جرى في سوريا من اعتداء إسرائيلي على نظام أحمد الشرع المستسلم رغم كلّ خطب الودّ تجاه تل أبيب، واعتبروا ملاحظات الرئيس في هذا الشأن "مبالغًا فيها". تقبّلوا رواية براك التي اعتبرت الاعتداء ردًّا على "تجاوزات" الشرع لا أكثر. وعلى الرغم من أن بعضهم كان يُبدي "خشية" من أحداث السويداء وتداعياتها، فإن ذلك لم يدفعهم إلى اتخاذ موقف حقيقي، ولن تتجاوز مفاعيله التصريحات الإعلامية، لأن أصحابها ببساطة لا يستطيعون الخروج عن مسار مرسوم يرتبط بنزع سلاح حزب الله. بل حتى الذين يتبنّون هذا الخيار وفي نفس الوقت يخشون الأقلي، لا يجرؤون على قول كلمة في الدفاع عن بقاء السلاح، حتى ولو كان ذلك مرحليًا وبغرض استغلاله للحماية، لأنهم ببساطة يخشون الغضب الأميركي. ويكاد بعضهم "ينقّع أسفله" ويتلعثم ويشرد ويضيع ويصفرّ قبل أن يتفوّه بكلمة واحدة عن "حزب الله"، كما حصل مع النائب نديم الجميّل، الذي دار وحار وانتقى عباراته عندما وُوجه بسؤال حول الخطر الزاحف من الشرق.
"الرؤوس الحامية" يعتقدون أن الأجواء تخدم فكرة الذهاب إلى مجلس الوزراء لاتخاذ قرار بنزع السلاح، حتى لو أدّى ذلك إلى انسحاب وزراء "الثنائي الشيعي"، أو تجاوز صلاحيات رئيس الجمهورية، أو حتى التسبّب بأزمة حكم وربما نزاع أهلي. لا بل إن بعضهم يراهن على انسحاب من هذا النوع، لتحميل أصحابه الكلفة. وهم يظنون أن مثل هذا القرار من شأنه أن يعطي أمرًا تنفيذيًا مباشرًا للجيش اللبناني لاقتحام مخازن السلاح (من دون الأخذ برأيه حتى)، ليس للاستفادة منه بل لتدميره وهم بأمسّ الحاجة له.
ثمة ما هو أبعد وأعمق ويتخطّى بمضمونه مسألة السلاح. هناك من يعمل في الداخل على "الحفر" تحت المقاومة، تمهيدًا لورشة تعديلات داخل النظام اللبناني، تقوم على وراثة ما يُسمّى "التركة الشيعية". ثمة من يرى أن استفزاز الشيعة بهذا الشكل كفيل بإنتاج رد فعل شعبي كفعل متراكم، يمكن استخدامه لاحقًا لتحميلهم مسؤولية أي توتّر أو خضّة أمنية، تمامًا كما استُخدمت "حرب الإسناد" لتحميلهم مسؤولية الدمار الذي أُلحق، وقبله مسؤولية الانهيار الاقتصادي الذي تسببت به مصارفهم وسمسراتهم.
بكل بساطة، هناك في لبنان مخطّط اليوم، ولو أنكر البعض وجوده، يتولّى تنفيذه "الرؤوس الحامية"، ونصّب سمير جعجع نفسه مبشّرًا به. يقوم على نزع شرعية سلاح "حزب الله"، بدءًا من مجلس الوزراء كمرحلة أولى، وفي الشارع كمرحلة ثانية، حين يعتقدون أن بيئة الحزب ستندفع - عندما يتقرر وضع اليد عليه - رافضةً هذه الخيارات، فيجري تحميلها التبعات، ثم يُسوَّق للمبررات بأن الحزب يرفض الامتثال لقرارات الشرعية، وأن جماعته يريدون الانقلاب عليها. ولن يُشفع للحزب، الذي أعلن بوضوح أن سلاحه ليس للتسليم وشرح مبرراته، أن الدولة نفسها أوردت ما يشبه تلك الملاحظات في ورقة مقدَّمة إلى براك، تطلب ضمانات، وتشرح فيها ضرورات إنهاء ملفات الاحتلال والأسرى والعدوان والاغتيال، ولن ينفع أن بعض من دوّن الأفكار يصنّف في خانة الخصومة الحادة مع الحزب.
بكل صراحة، وضع هؤلاء خططًا مسبقة للتعامل مع ردود الأفعال المحتملة في حال صدور قرار كهذا، وأخرى بديلة في حال تعذّر اتخاذه، مبنية على ما يقوله الأميركيون تحديدًا، بأن "وساطتهم" محددة الوقت، ولا بد للبنان من تحمّل مسؤوليتها لاحقًا. وهذه "المسؤولية" تُعرَّف، وفق القاموس الأميركي، بالعقوبات التي لن تقتصر على كيانات، بل ستطال شخصيات، وستُفعَّل فيها الحرب الاقتصادية بكل وساختها وحقدها، وتُستخدم سياسة الضغوطات المتصاعدة، بما يُحمّل لبنان الكلفة والنتائج. عندها، سيخرج من يتهم الحزب بأنه أضرّ بعلاقات لبنان الخارجية، وأسهم في عزله دوليًا وخفّض تصنيفه الائتماني وعرقل مسيرة نهوضه، وساهم في تقويض العهد، وأنتج أزمة اقتصادية، وتسبّب بسياسة عقاب جماعي تطال جميع اللبنانيين. ولربما يخرج من أصحاب "الرؤوس الحامية" من يطلب حماية أو مساعدة دولية، وسيذهبون حتمًا نحو موجة تسخين داخلي، تكرارًا للمشهدية التي رافقت 17 تشرين الأول 2019.
حين يقول توم براك إن "الدولة اللبنانية مسؤولة عن نزع سلاح حزب الله"، فهو لا يُظهر حرصًا على السيادة، أو تشجيعًا للحكومة لأداء دورها، بقدر ما يدفع الدولة نحو مواجهة مع الحزب وبيئته، على مبدأ "أنتِ المسؤولة، وليس نحن".