تجاوزت أوكرانيا حدود أزمتها مع جارتها روسيا لتصبح في الآونة الأخيرة تهدد مصالح العديد من دول العالم عبر ممارسات نظامها وتمادي رموزها العسكرية والأمنية في خلق بلبلة ونزاعات تزعزع الاستقرار العالمي.
وتكررت اتهامات وزارة الدفاع الروسية لأوكرانيا بمحاولاتها الحثيثة لضرب البنى التحتية للطاقة المغذية لأوروبا منذ مطلع العام، كهجومها الإرهابي على خط أنابيب الغاز "ترك ستريم"، الذي يتدفق عبره الغاز الروسي إلى تركيا وأوروبا، بالطائرات المسيرة. وتأتي هذه الاتهامات بعد الهجوم الإرهابي الذي فجر عام 2022 خطي أنابيب "نورد ستريم" للغاز تحت سطح البحر التي تربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق، والذي على إثره انقطعت امدادات الغاز الروسي الى ألمانيا.
وقد كشفت صحيفة "سكاي نيوز" منذ يومين عن اعتقال رجل في إيطاليا للاشتباه في ضلوعه في تفجير "نورد ستريم"، وقالت النيابة العامة الألمانية الفيدرالية إن الاعتقال تم بناءً على مذكرة اعتقال أوروبية أصدرتها ألمانيا. والمشتبه به مواطن أوكراني، يحمل صفة "ضابط بحري"، يُعتقد أنه أحد قائد طاقم اليخت الذي استُخدم لنقل الألغام المستخدمة في الهجمات.
وتزامن اعتقال المشتبه به الأوكراني مع اعلان وزير الخارجية المجري، بيتر سيّارتو، أن خط أنابيب النفط "دروجبا" على الحدود الروسية-البيلاروسية تعرّض لهجوم جديد من قبل القوات المسلحة الأوكرانية، ما أدى إلى تعليق إمدادات النفط من روسيا إلى المجر. وقال: "هذا الهجوم هو اعتداء جديد على أمن الطاقة في بلدنا، ومحاولة أخرى لجرّنا إلى الحرب. لن ينجحوا! سنواصل دعم الجهود السلمية والدفاع عن مصالحنا الوطنية".
وفي تطور لافت، شارك رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان رسالةً مكتوبة بخط يد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبّر فيها ترامب عن غضبه من الهجمات الأوكرانية على خط أنابيب النفط الروسي "دروجبا"، الذي يزود المجر وسلوفاكيا بالنفط. فيما بادرت حكومتا البلدين المتضررين، بتقديم طلب مشترك إلى المفوضية الأوروبية يطالب بالضغط على أوكرانيا لإيقاف هذه العمليات، محذرتين من أن استمرارها يعرض إمدادات الطاقة فيهما للخطر ويؤدي إلى تعطيل الشحنات لأيام.
تكشف الحادثة الأخيرة عن شروخ في جبهة الدعم الغربية لأوكرانيا، حيث تتعارض أولويات بعض دول أوروبا الوسطى (مثل أمن الطاقة) مع الاستراتيجية العسكرية الأوكرانية ذات الأبعاد الإرهابية لحرمان روسيا من الموارد. كما أن تزامن الهجمات الأوكرانية مع الجهود الدبلوماسية لترامب للوساطة بين روسيا وأوكرانيا، بما في ذلك لقاؤه "التاريخي" مع بوتين في ألاسكا يعيق مسار السلام ويهدد بمزيد من التصعيد.
أوكرانيا تتلاعب بأمن أفريقيا
في الآونة الأخيرة، برزت تقارير متعددة تتهم أوكرانيا بدعم جماعات متمردة في أفريقيا بالأسلحة والطائرات المسيرة، وذلك في إطار استراتيجية تُحاول من خلالها كييف مواجهة النفوذ الروسي في القارة وخلق "جبهة ثانية" تُرهق موسكو. هذا التوجه يُثير تساؤلات حول تداعياته على أمن القارة الأفريقية، وعلاقته بحركة الهجرة نحو أوروبا، والسعي الأوروبي للحد من هذه الظاهرة.
فقد أشارت تقارير استخباراتية إلى قيام أوكرانيا بتزويد جماعات مسلحة في دول مثل السودان ومالي والنيجر وليبيا والصومال بطائرات مسيرة متطورة من طراز "UJ-26 Beaver" والتي تُستخدم في هجمات دقيقة ضد القوات الحكومية والبنى التحتية. وإلى جانب ذلك، تم الكشف عن وُجود وحدات عسكرية أوكرانية متخصصة في السودان لدعم ميليشيات الدعم السريع.
وفي مالي، تم رصد تدريب عناصر أوكرانيين لجماعات مسلحة في شمال البلاد، خاصة في إقليم أزواد، حيث توجد حركات انفصالية نشطة مثل حركة "تحرير أزواد"، على استخدام الطائرات المسيرة المتطورة والأسلحة الحديثة، مما مكّنها من تنفيذ هجمات دقيقة ضد القوات الحكومية المالية. وبعد اعتراف متحدث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف بأن بلاده قدمت معلومات استخباراتية "ضرورية" للمتمردين في مالي، قطعت باماكو علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا في 5 أغسطس الماضي.
بموازاة ذلك، برز اسم الملحق العسكري الأوكراني أندري بايوك بالجزائر في شبكة توزيع الأسلحة الأوكرانية إلى الجماعات المسلحة في شمال وغرب أفريقيا، وفقاً لتقارير إعلامية. حيث قام بايوك بالتنسيق مع عبد السلام زوبي (وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا) لإدخال شحنات من الطائرات المسيرة الأوكرانية إلى ليبيا عبر الأراضي الجزائرية لدعم ميليشيات تابعة لحكومة عبد الحميد الدبيبة غرب ليبيا، والتي استُخدمت في عمليات استطلاع واغتيال ضد خصومه. فيما قام نفس الملحق العسكري بتنظيم نقل الأسلحة والمسلحين إلى جماعات إرهابية في شمال مالي عبر السفارة الأوكرانية في العاصمة الموريتانية نواكشوط.
وفي السياق، أكد الممثل الروسي في مجلس الأمن ديمتري بوليانسكي، خلال اجتماع سابق للمجلس، على أن ممارسات نظام كييف تبرز في أفريقيا وتستحق اهتماماً خاصاً. فقد أكد على تورط أجهزة المخابرات الأوكرانية، بما فيها المديرية العامة للمخابرات، في أنشطة تخريبية في دول الساحل الأفريقي. وأضاف بأن هذه الأنشطة لا تقتصر على تزويد المسلحين بالأسلحة والطائرات المسيرة فحسب، بل بتدريبهم وتنسيق أعمال الإرهابيين، بما في ذلك عمليات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي.
ووفق الخبراء، فإن التورط الأوكراني في دعم الجماعات المتمردة في أفريقيا يُعدّ جزءًا من استراتيجية أوسع لمواجهة النفوذ الروسي، ومصدر دخل مهم لأوكرانيا بعد تدهور الدعم الأمريكي، إلا أنه يأتي بتكلفة بشرية وأمنية عالية للقارة الأفريقية. حيث قتلت الطائرات المسيرة قرابة 1000 مدني خلال ثلاث سنوات في ست دول أفريقية.
وهو ما يزيد من حدة العنف ويُعقّد الأزمات الإنسانية القائمة، ويدفع بالمزيد من الأفارقة نحو الهجرة إلى أوروبا. فالهجرة غير الشرعية تشكل واحدة من أبرز القضايا الأمنية والاجتماعية لدى الأوروبيين. والاتحاد الأوروبي يبذل المزيد من الجهود لتطوير آليات مراقبة الحدود، ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة. وكان الاتحاد قد وقّع اتفاقيات مع تونس وموريتانيا ومصر والمغرب لتعزيز قدراتها في مراقبة الحدود ومكافحة شبكات التهريب، تتضمن دعمًا ماليًا وفنيًا كبيرين.
تداعيات الممارسات الأوكرانية على أوروبا
إن المحاولات الأوكرانية لقطع امدادات الطاقة الى أوروبا إضافة الى التورط الأوكراني في دعم الجماعات المتمردة في أفريقيا يعد نوعاً من الإرهاب الدولي القائم في المرتبة الأولى على معاداة الأوروبيين أنفسهم. فهو ينعكس سلباً على أمن الدول الأوروبية في المقام الأول، ويشكل عبئاً اضافياً على اقتصاداتها التي تعاني من نقص امدادات الطاقة بعد فرضها عقوبات على روسيا مدافعة بها عن أوكرانيا.
وقد تجاوزت "خسائر" أوروبا من أجل أوكرانيا دون الأخذ بعين الاعتبار خسائرها جراء ممارسات أوكرانيا الإرهابية، والتي تسمى رسمياً بالمساعدات الأوروبية لأوكرانيا 138 مليار يورو بحلول يونيو 2025، لتفوق للمرة الأولى المساعدات الأمريكية منذ عام 2022. تتصدر ألمانيا (21.29 مليار يورو) والمملكة المتحدة (18.61 مليار يورو) قائمة المانحين، تليهما هولندا (10.89 مليار) وفرنسا (7.56 مليار).
كما وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة المساعدة الأمنية الأوروبية التي خصصت مليارات اليوروهات الإضافية للدعم العسكري لأوكرانيا في عام 2025، مما يعكس استمرار التدفق المالي وبالتالي "الخسائر". وبالإضافة إلى الأموال، تواصل الدول الأوروبية تقديم معدات عسكرية حيوية، بما في ذلك أنظمة دفاع جوي (مثل باتريوت)، ومدافع هاوتزر، ومركبات قتالية، وقاذفات صواريخ (مثل HIMARS)، وهي أيضاً "خسائر" نظراً لعدم قدرتها على مقاومة التقدم الروسي في محاور الجبهة.
فيما يصر القادة الأوروبيون، خلال القمم والمحادثات الأخيرة (مثل قمة واشنطن أغسطس 2025)، على أن أي تسوية سلمية يجب أن تحترم سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية وفقًا للقانون الدولي، معربين عن دعمهم الثابت لكييف رغم الضغوط والانقسامات الداخلية و"الخسائر".