نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تحقيقًا مطولاً أشار إلى أن تأثيرات الصدمات النفسية الناتجة عن الحرب في قطاع غزة آخذة في التفاقم داخل صفوف الجيش الإسرائيلي، لدرجة أن أعدادًا كبيرة من الجنود النظاميين قد غادروا الخدمة منذ اندلاع العمليات، وبعضهم "إلى غير رجعة".
التحقيق، الذي استغرق أشهرًا، جمع شهادات مباشرة من جنود وصفوا معاناة نفسية شديدة وصلت إلى حد محاولات انتحار وحالات هروب من ساحات القتال.
روى عدد من الجنود أحداثًا مروّعة أظهرت الضغط النفسي الهائل الذي يفرضه أداء المهام القتالية. أحدهم — قدّمته الصحيفة باسم "يوني" وكان ضمن لواء ناحال — وصف لحظة فتح النار على ما اعتقد رفيقه أنها تهديد مسلّح، ليكتشفا لاحقًا أن الضحايا كانوا امرأة وطفليها (8 و10 سنوات) الذين قضوا. يقول يوني عن المشهد: "كان الدم يملأ المكان... شعرت برغبة في التقيؤ"، ويضيف أن التعامل البارد من بعض الضباط جعل تجربة القتل تبدو وكأنها "خطأ منطقي" وليس مأساة إنسانية، ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه وأجبره لاحقًا على الانتقال إلى وظيفة غير قتالية.
قناص آخر عرّفت عنه هآرتس باسم "بيني" تحدث عن تجاربه المكثفة في قطاع الشمال من غزة، حيث كان يرى ضحاياه عبر منظار بندقيته. روى أنه كان يطلق "خمسين إلى ستين رصاصة في اليوم" وأنه فقد القدرة على العدّ بعدد القتلى، مؤكّدًا أن "الملامح تقض مضجعي" وأنه بات يعاني كوابيس ليلية ورهابًا من الأصوات الصغيرة، ووصل به الأمر إلى تبول ليلي. وبيّن بيني أنه لم يكن يملك حرية قرار كاملة في كثير من الحالات، إذ كان يتلقّى أوامر عبر الراديو من القادة تطالب بإطلاق النار السريع تحت حجّة الخطر المحدق.
جندي ثالث — "آهارون" — روى كيف أنّه توقف عن النوم، وأصبح مرعوبًا من أي صوت، وأنه احتاج إلى نقله من الخطوط الأمامية بعد أن رفض ضابط الصحة النفسية في وحدته طلبه ابتدائيًا.
حالات كهذه، تقول هآرتس، ليست معزولة؛ بل هناك عشرات الحالات داخل وحدات معيّنة التي شهدت طلبات متكررة للانتقال، ورفضًا أو تجاهلًا من بعض القادة، أو فرض عقوبات على مطالبين بالنقل بدعوى "خيانة" أو "ضعف".
تتهم هآرتس قيادة الجيش بمحاولة التماطل في الكشف عن أرقام دقيقة تتعلق بالجنود الذين عانوا اضطرابات نفسية أو حاولوا الانتحار، وبتقديم بيانات جزئية أو معدّلة عندما تُطلب رسميًا.
وتشير إلى أن طلبها لبيانات الانتحار ومحاولاته ظل عالقًا لدى وزارة الدفاع لثلاثة أشهر تحت حجج جمع البيانات من جهات متعددة، بينما أقرت مصادر داخل إدارة الموارد البشرية بأن الأرقام الحقيقية لأفراد يعانون أوسع مما يُعلن علنًا.
من جهة أخرى، أشار رئيس إدارة الصحة العقلية في الجيش، في جلسة بالكنيست، إلى أن رقم 1135 جنديًا (من القوات النظامية والاحتياط) أُعفيوا من الخدمة لأعراض ما بعد الصدمة؛ بيد أن هآرتس تؤكد أن هذا الرقم لا يشمل من سرّح لاحقًا بسبب مشاكل نفسية أخرى، ولا من ظهرت عليهم الأعراض بعد التسريح، ما يجعل الحصيلة النهائية أعلى بكثير.
تقول الصحيفة إن عدّة وحدات تكافح للحفاظ على جاهزيتها القتالية وسط موجة استنزاف نفسي ومعنوي، وإن هذا الانهيار المحتمل في الجاهزية يطرح تحديات استراتيجية وسياسية على القيادة والقرار السياسي.
كما تُذكر حالات حوكمة جنود رفضوا الالتحاق بساحات القتال — 23 حالة محاكمة أوردتها الصحيفة — ومحاولات انتحار سجلت خلال العام الماضي انتهت فيها معظمها بإعفاء الجندي.
وفي أسوأ الوقائع التي وثقتها هآرتس، قصّ ضابط هندسة خدم في جنوب غزة رسالة ودّع فيها عائلته قبل أن يفجّر نفسه بقنبلة يدوية، ما دفع الجيش إلى الصمت بشأن هويته.
تكشف تحقيقات مثل تحقيق هآرتس عن بُعدٍ مَرَضي في ردهات المؤسسة العسكرية: ارتفاع الأعباء النفسية، نقص في آليات الدعم النفسي الشاملة، واحتمال تساهل بعض القادة تجاه شكاوى الجنود.
وفي موازاة ذلك، يطرح الأمر أسئلة سياسية حول مدى قدرة المؤسسة على الاستمرار في تعبئة قوى نظامية موسعة، وما إذا كانت الأزمة النفسية داخليًا ستحفّز سجالات سياسية حول المساءلة والقيادة والعمليات العسكرية.