صيف 2024: تسلسل البيانات
بداية لنعد خطوة إلى الوراء، من أواخر حزيران حتى مطلع آب 2024، صدرت بيانات متلاحقة من عواصم كبرى، ما كان يمكن تجاهلها، ففي 21 حزيران صدر تحذير عن وزارة الخارجية في دولة الكويت التي دعت مواطنيها لمغادرة لبنان فوراً، فكان البيان قصيراً لكنه فتح الباب على سلسلة تحذيرات لاحقة، في 26-27 حزيران طالبت برلين مواطنيها بالمغادرة الفورية، فيما كندا رفعت مستوى التحذير ودعت إلى الاستفادة من الرحلات التجارية قبل أن تُغلق الأجواء، في 28 حزيران دعت عمان لتجنّب السفر الى لبنان، ونيودلهي أصدرت بياناً صارماً من سفارتها في بيروت، في سابقة نادرة للهند في لبنان، وفي أواخر حزيران انضمت هولندا وأيرلندا وروسيا إلى موجة "غادروا لبنان"، محذّرة من تدهور سريع محتمل للأوضاع الأمنية.
في ذلك الشهر كان الحدث الأبرز بسياق المعركة بين إسرائيل والحزب، اغتيال القائد طالب عبد الله في جويّا.
في شهر تموز هدأت التحذيرات حتى نهايته يوم رفعت واشنطن تحذيرها إلى المستوى الأعلى "Do Not Travel"، وحثت الأميركيين على مغادرة لبنان فوراً، وبالطبع هذا البيان اعتُبر الأخطر لأنه يفتح الطريق عادة أمام خطوات ميدانية أكبر، ثم توالت تحذيرات الدول الكبرى، ففي 4 آب طالبت باريس مواطنيها بمغادرة لبنان "بأسرع وقت"، وروما تبنّت لهجة مماثلة، فيما أنقرة شدّدت على مواطنيها لتجنّب الجنوب والبقاع والنبطية، في 29 تموز جاء تحذير أستراليا شديد اللهجة، حاثًّا الأستراليين على المغادرة، واليوم يتكرر التحذير الأسترالي.
من "ضغط على لبنان" إلى "إنذار مبكر"
قبل أيلول الماضي، جرى التعامل مع هذه البيانات باعتبارها جزءاً من لعبة الضغط السياسي: محاولة لفصل لبنان عن غزة، ومواكبة التهديدات الإسرائيلية بفتح جبهة جديدة. لكن الوقائع كشفت العكس، إذ كانت البيانات انعكاساً لمعطيات استخباراتية التقطت إشارات حقيقية إلى اقتراب المواجهة، أي أن السفارات لم تكن تضغط بقدر ما كانت تُبلغ رعاياها بخطر وشيك، وقبل ساعات، جدّدت السفارة الأسترالية تحذيرها من السفر إلى لبنان، فهل يُقرأ هذا التحذير كجزء من سلسلة بيانات روتينية في ظل التوتر الدائم، أم يجب مراقبة أبعاده؟
دلالات أمنية: ماذا تعني البيانات؟
بحسب مصادر دبلوماسية عربية، فإن بيانات التحذير التي تصدر عن السفارات، عادة ما تكون بمثابة مؤشر استخباراتي، مشيرة عبر "ليبانون ديبايت" إلى أن صدور بيانات متزامنة من عواصم كبرى لا يأتي صدفة، بكل تأكيد، بل هو انعكاس لتقارير أمنية تتقاطع حول تقدير أن الوضع الأمني لن يكون مستقراً، كذلك فإن البيانات عادة ما تكون بمثابة "عدّ تنازلي"، وهي بكل بأغلب الحالات ليست تعبيراً عن موقف سياسي فقط، بل جزء من إجراءات ميدانية تمهيدية.
لا تُريد المصادر الدبلوماسية نشر القلق والخوف والتوتّر، خصوصاً أن بياناً واحداً من السفارة الاسترالية قد لا يكون كافياً لرسم مشهد كامل، مشيرة إلى أنه لا بدّ أيضاً من التنبه إلى أن أغلب السفارات لم تلغ الإنذارات القديمة، ولم تُعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل حرب الإسناد، كون الحرب لم تتوقف بعد، داعية لمراقبة مؤشر البيانات وكيفية تطوره، وما إذا كان سيشمل دولاً إضافية في الأسابيع المقبلة، وكيف تتدرّج البيانات من "ضرورة تجنّب السفر"، إلى منع السفر وضرورة المغادرة.
ورداً على سؤال ما إذا كنا أمام نسخة جديدة من صيف لبنان 2024؟، تقول المصادر الدبلوماسية العربية أن الجواب بظل الوضع في المنطقة لا يمكن أن يكون قطعياً، خصوصاً أن إسرائيل لا تُمارس التفاوض، لا في غزة ولا في سوريا ولا في لبنان، بل هي تتنقل بين الجبهات من خلال تبريد واحدة وتسخين أخرى، واليوم جبهة غزة على نار حامية، والجبهة مع لبنان تعيش حالة من البرودة، محذرة من أمرين، الأول ربط القرارات الإسرائيلية بعدد الجبهات، بمعنى أن القناعة بكون إسرائيل غير قادرة على فتح جبهتين معاً قد سقطت، والثاني القول أن إسرائيل لا ترغب بحرب مع لبنان أو بتصعيد، فهي وإن كان الوضع الحالي يناسبها، لكنها لا تستطيع البقاء فيه لأشهر طويلة أو سنوات، لأنها تخشى منح الوقت لخصومها من أجل الترميم.
لا تنفي المصادر الدبلوماسية العربية أن الاستحقاقات أمام الكيان الإسرائيلي كبيرة جداً وقد تفوق بأهميتها، أهمية "الملف اللبناني" بالوقت الراهن، كما لا تنفي أن دوائر القرار الأميركية أوحت وكأن الجبهة اللبنانية لن تشهد حرباً كاملة الأوصاف أقله حتى منتصف الخريف المقبل، هذا لا يعني أن التصعيد لن يحصل فهناك فرق بين التصعيد الكبير والحرب الشاملة، ولكنها تؤكد بالوقت نفسه أن ميدان "المنطقة" هو ميدان متحرك يخضع للتغيرات، والقرارات التي تُتخذ قد لا تصمد بحسب تبدل مجرى الرياح، وأن الضمانات الاميركية لم تعد تُقنع أحداً، لذلك فليس لبنان وحسب من يقع داخل دائرة الخطر، بل كل المنطقة وصولاً الى الدول العربية خارج القارة الآسيوية أيضاً.