مع افتتاح المتحف المصري الكبير وبدء عرض عدد من أبرز كنوز الحضارة المصرية القديمة، عاد الجدل مجدداً حول الآثار المصرية المنتشرة في العالم، وفي مقدمتها "زودياك دندرة"، أحد أهم الشواهد الفلكية في تاريخ مصر القديمة.
فبينما يُعرض هذا النقش الفريد اليوم في متحف اللوفر بباريس، رغم كونه جزءاً أصيلاً من سقف معبد دندرة قبل نقله إلى فرنسا مطلع القرن التاسع عشر، تجددت الدعوات الشعبية والرسمية للمطالبة باستعادته ضمن جهود حماية الهوية والتراث، بالتزامن مع حملات تسعى لاسترداد أكثر من 32 ألف قطعة أثرية مُهربة.
يُعد زودياك دندرة لوحة فلكية استثنائية نُحتت في العصور المصرية المتأخرة، ويحمل مخططاً دائرياً يتضمن الأبراج الاثني عشر المعروفة حتى اليوم، إلى جانب رموز للكواكب والنجوم ومساراتها، ما يجعله أقدم تمثيل شبه كامل لنظام الأبراج.
ويكشف هذا النقش عن مدى تقدّم المصريين القدماء في علم الفلك، ودورهم الريادي في وضع أسسه الأولى.
الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار بجامعة القاهرة، أكد في تصريح لـ"العربية/الحدث.نت" أن الزودياك يُعد أحد أندر الشواهد الفلكية في التراث المصري وفي تاريخ علم الفلك العالمي. وأضاف أن النقش ليس مجرد عنصر زخرفي، بل وثيقة علمية دقيقة سجّل فيها المصريون الأبراج ومسارات النجوم، ما يدل على سبقهم في فهم حركة الأجرام السماوية.
وأشار بدران إلى أن النقش عُثر عليه داخل معبد دندرة بمحافظة قنا، وكان مثبتاً في الطابق الثاني من المعبد في موقع يصعب الوصول إليه، ما ساعد في الحفاظ عليه لقرون طويلة. كما عكس دمج المصريين القدماء بين الفلك والدين والطقوس، وإدراكهم للعلاقة بين حركة النجوم والزمن.
وأوضح بدران أن النقلة الكبرى التي أدت إلى خروج الزودياك من مصر حدثت مطلع القرن التاسع عشر، حين وصل إلى الموقع عالم فرنسي يُدعى سيباستيان لويس سولنييه. ولانتزاع اللوحة الفلكية، استخدم الديناميت لتفجير جزء من السقف، رغم خطورة ذلك على المعبد.
وبعد انتزاع النقش، جرى تهريبه من مصر ليستقر في اللوفر، حيث يُعرض حتى اليوم. وأشار بدران إلى أن مصر نفّذت لاحقاً أعمال ترميم واسعة لإصلاح الأضرار التي أصابت المعبد، وتسلمت نسخة طبق الأصل من الزودياك تُعرض الآن للزوار.
وشدد بدران على أن المصريين لم يكونوا مجرد مراقبين للسماء، بل علماء سبقوا عصرهم؛ فقد رصدوا الأبراج وميّزوا بين النجوم الثابتة والسيّارة، وتابعوا حركة نجم الشعرى اليمانية المرتبط بفيضان النيل، كما اكتشفوا بالعين المجردة الكواكب الخمسة الأولى: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، والمشتري.
ورأى أن هذه الأدلة تؤكد أن الحضارة المصرية كانت رائدة في علم الفلك، وأن الزودياك ليس مجرد أثر مهجّر، بل وثيقة علمية عالمية يجب إعادة تقييمها واستردادها.
من جانبه، وصف الدكتور أيمن وزيري، رئيس قسم الآثار المصرية في جامعة الفيوم، زودياك دندرة بأنه تحفة فنية وعلمية نادرة على مستوى العالم، مشيراً إلى الدقة المذهلة التي نُحتت بها الأبراج والنجوم والكواكب، واعتبار هذا العمل مثالاً على الارتباط العميق بين العلم والفن في مصر القديمة.
وأوضح وزيري أن سرقة الزودياك ونقله إلى فرنسا تعكس اهتمام الأوروبيين بالآثار المصرية في القرن التاسع عشر، لكنها تمثل في الوقت نفسه خسارة كبيرة للتراث المصري. ورغم أن النسخة المعروضة في اللوفر تتيح للباحثين دراسته، إلا أنها لا تعوّض عن وجود الأصل في موقعه داخل معبد دندرة.
واختتم وزيري قائلاً إن استعادة الزودياك ليست مجرد مطلب وطني، بل خطوة ضرورية لإعادة واحدة من أهم الوثائق العلمية والفنية في التاريخ إلى موطنها الطبيعي، حيث يمكن تقدير قيمتها الكاملة.