في لحظة سياسية ترفع فيها الحكومة شعار الإصلاح، يبدو لافتًا أن يتصرّف وزير الاتصالات شارل الحاج كما لو أنّه مقاول عقاري يتهيّأ لطرح القطاع في مزاد علني، لا كوزير مؤتمن على أحد أهم المرافق العامة في الدولة. فبدل الانشغال بإصلاح الشبكات المتصدّعة، وضبط الهدر، وتحديث البنى التحتية، ينصرف الوزير إلى مسار التخمين والتقدير، في خطوة توحي بأن الهدف هو تهيئة الأرضية لعرضٍ تجاري لا لخطة إصلاحية شاملة يفترض أن تشكّل جوهر عمل الحكومة. هذا السلوك يثير الريبة، ويفتح الباب أمام أسئلة مشروعة حول الأولويات الفعلية للوزارة والغايات التي تُنفّذ تحت مظلة القانون 431.
وبالاستناد إلى أحكام القانون 431 الصادر عام 2002، والذي وضع إطارًا لإعادة هيكلة قطاع الاتصالات وإنشاء شركة وطنية جديدة، أطلق الوزير مشروع إعداد دفتر شروط ومشروع عقد لتخمين الأصول الثابتة وغير الثابتة العائدة لوزارة الاتصالات، تمهيدًا لتأسيس "ليبان تيليكوم"، الشركة التي يمنحها القانون صلاحية الحلول مكان وزارة الاتصالات وهيئة "أوجيرو" في إدارة الشبكات والمرافق، وتقديم الخدمات، والاستثمار في تطوير البنية التحتية.
غير أنّ المشروع الذي يدفع به الوزير لا يسلك المسار الطبيعي لإنشاء شركة وطنية حديثة، بل يشبه — وفق معطيات متقاطعة — "خطة محكمة" تمهّد لسيطرة جهة محدّدة على القطاع. فبدل تأسيس شركة رشيقة قادرة على المنافسة، يجري العمل على إغراق "ليبان تيليكوم" بآلاف الموظفين، ما يفاقم كلفتها التشغيلية ويُضعف قيمتها السوقية، تمهيدًا لبيع 40% منها إلى شريك استراتيجي في بيئة متدنية القيمة.
وتشير المعلومات إلى أنّ الوزير يسعى إلى نقل جميع موظفي ومياومي "أوجيرو" إلى الشركة الجديدة، خلافًا لروح القانون التي تشترط اختيار من تحتاجهم فقط ودفع التعويضات للآخرين. إلا أنّ محاولة إدخال الجميع دفعة واحدة تُعتبر — بحسب المطلعين — هروبًا من دفع التعويضات، وتؤدي إلى تكوين شركة مترهّلة قبل ولادتها، في سوق يعيش أصلًا على منافسة غير شرعية لقطاع الإنترنت. ومع ضخّ هذه الأعداد الضخمة، يصبح من السهل على الشريك الاستراتيجي لاحقًا تطبيق خطة ترشيق قاسية تعود بالفائدة الماليّة عليه وحده.
الأخطر أنّ معدل الأعمار لدى الموظفين المزمع نقلهم يبلغ 57 عامًا، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول إطلاق شركة يفترض أن تكون متجددة وقادرة على اللحاق بالتطوّر التقني المتسارع عالميًا، لا مثقلة بكتلة بشرية شبه متقاعدة.
ويزداد الغموض حين يتجنّب الوزير في إطلالاته التطرّق إلى شركة "زين" ورئيسها التنفيذي بدر الخرافي، رغم أن الشركة تُعدّ — وفق معطيات الكواليس — الأكثر ترجيحًا للدخول كشريك استراتيجي في "ليبان تيليكوم". فحين سُئل الوزير عن هوية الشركات المهتمّة، ذكر أسماء عالمية مثل Vodafone وEtisalat وOoredoo، وتجاهل ذكر "زين" عمدًا، قبل أن يلفظ اسمها على استحياء عند الإصرار، في خطوة تُقرأ كمحاولة لإبعاد الأنظار عن ارتباطات سياسية وتجارية لا تخفى على أحد.

ويأتي إحياء مشروع “ليبان تيليكوم” اليوم كحلقة جديدة في سياق محاولات وضع اليد على هذا القطاع الحيوي، بعدما تراجع الوزير مضطرًا عن خطته السابقة التي كانت تهدف إلى إعادة إدخال مشغّلين لإدارة شركتي الخليوي كما كان معمولًا به في عام 2004. فقد تبيّن أن هذا الخيار غير مجدٍ، وأن القطاع بحاجة أولًا إلى إصلاح عميق: تحسين الخدمات، رفع الجهوزية التشغيلية، وقف الهدر، زيادة الإيرادات، وإعادة بناء الثقة بالسوق، قبل أي بحث في خصخصة أو شراكات.
ويشير خبراء إلى أنّ إدخال مشغّلين في الظروف الحالية، بحجة أن الوزير "لا يستطيع إصلاح القطاع"، كان سيعني عمليًا تصفيةه بثمن بخس في ظل انهيار الإيرادات والفوضى التشغيلية وتراجع الاستثمار. وبالتالي، فإن الانتقال المتسارع من خطاب إصلاحي إلى “مشغّلين خارجيين”، ثم إلى الإحياء المفاجئ لـ"ليبان تيليكوم"، من دون أي تحديث للقوانين أو إصلاح للبنية التنظيمية، يكشف بحث الوزير عن منفذ بديل لتمرير الخصخصة المقنّعة عبر شركة جديدة ترث الأصول والمرافق من دون أي معالجة حقيقية للخلل القائم.
والمستغرب أنّ الوزير يختبئ خلف مقولة: "لماذا الجميع ضدي طالما أنني أطبّق القانون؟". لكن الإشكالية ليست في التطبيق، بل في أن القانون متخلف وعفا عليه الزمن ولم يعد صالحًا لعصر التكنولوجيا المتسارعة. فالقانون 431 نفسه يحتاج إلى تعديل جوهري يتماشى مع التطوّر، لا إلى استخدامه كوسيلة للتلزيم والتخمين والتمهيد لبيعٍ مقنّع. فمهمة الوزير ليست تدوير زوايا نصوص قديمة ولا التصرّف كمدير مشروع تجاري، بل وقف الهدر وضع سياسات عصرية ومراسيم تنفيذية تعزز الحوكمة وتعيد تنظيم القطاع بما يخدم الدولة والمواطن.
وبناء عليه، سنعرض في سلسلة مقالات لاحقة مكامن الهدر الفادح في القطاع، وفي حال كان الوزير عاجزًا عن القضاء عليها — رغم خبرته الطويلة — فسنضع أمامه الخطوات التي تُمكّنه من ذلك.
ولهذا السبب تحديدًا ترتفع الاعتراضات: ليس لأن الناس "ضد الوزير"، بل لأن ما يجري يُقدّم على أنه "تطبيق للقانون"، فيما هو في الواقع تكريس لمقاربة بالية تتجاهل جوهر ما وعدت به الحكومة: الإصلاح أولًا.
ويبقى السؤال الأكبر: لماذا الغموض؟ ولماذا تُدار ملفات الاتصالات بمنطق المستتر؟
فالقطاع الذي يفترض أن يشكّل نموذجًا للحَوْكَمة السليمة، أصبح مختبرًا لوصفات خصخصة مقنّعة، فيما المطلوب قبل أي "خطة محكمة" هو الشفافية الكاملة، كشف واقع القطاع كما هو، وتقديم خطة إصلاح حقيقية تقوم على الاستثمار والتطوير لا على البيع والتخمين، انسجامًا مع الوعود المرفوعة أمام اللبنانيين.