المحطة الأولى تأتي في الخامس من أيلول، مع جلسة مجلس الوزراء المخصّصة للاستماع إلى قيادة الجيش بشأن خطة سحب سلاح حزب الله. هذا الموعد، الذي يُفترض أن يكون نقاشًا وطنيًا مسؤولًا حول أخطر الملفات التي تواجه اللبنانيين، يبدو مرشّحًا لأن يتحوّل إلى ساحة مزايدات سياسية.
فريق يرفع شعار “السيادة الكاملة” ويرى في الجلسة فرصة للانقضاض على الحزب، وفريق آخر يلوّح بالفتنة والانسحاب من الجلسة إذا شعر بالاستهداف. مرة جديدة، تظهر الدولة عاجزة عن لعب دور المرجعية الحاسمة، فتتحوّل طاولة الحكومة إلى ساحة لتصفية الحسابات بدل أن تكون منصة لإنتاج قرار جامع يوقف الانهيار.
بعد يومين فقط، أي في السابع من أيلول، ينتقل المشهد إلى معراب حيث القدّاس السنوي لشهداء القوات اللبنانية. الحدث الذي يُفترض أن يحمل طابعًا روحيًا ـ دينيًا للصلاة والتأمّل، يتحوّل في كل مرة إلى مهرجان سياسي عالي النبرة.
الخطاب هنا، بلسان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، يستحضر الماضي الدموي ويعيد إحياء سردية “المقاومة المسيحية”، بما يذكّر اللبنانيين بأشد فصول الحرب الأهلية قتامة. في هذه المناسبة أيضًا، يغيب خطاب الدولة لحساب خطاب الانقسام، وتُستحضر ذاكرة الشهادة كسلاح سياسي يكرّس منطق الجماعة على حساب منطق الوطن.
ويستمر التصعيد في الرابع عشر من أيلول، يوم ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميّل. هذه المناسبة، التي كان يمكن أن تكون محطة للتفكير في معنى الحرب الأهلية وفشلها المدمّر، تتحوّل عامًا بعد عام إلى منبر تعبوي يكرّس خطاب المواجهة والانقسام، حتى بين الحزبين المسيحيين اللذين مثّلهما بشير الجميل: القوات والكتائب.
فمن اغتيال عام 1982 وحتى واقع 2025، يبقى المشهد واحدًا: اللبنانيون يقرأون حاضرهم بعيون الماضي، ويعيدون استحضار الجراح القديمة ويحوّلونها إلى شرعية سياسية آنية. لكن كل هذه المحطات تبقى أقل خطورة من السابع والعشرين من أيلول، اليوم الذي سيُسجَّل في تاريخ لبنان كأحد أكثر الأيام دموية وتأثيرًا، وهو يوم استشهاد أمين عام حزب الله السابق السيد حسن نصرالله. فالحدث ليس خبرًا عابرًا، بل زلزال سياسي وأمني ضرب لبنان والمنطقة.
وفي هذا اليوم، سيهتز الداخل اللبناني على وقع الانقسام، فجزء من اللبنانيين سيعتبره نهاية مرحلة وبداية لتحرّر الدولة، فيما سيعتبره جزء آخر إعلان حرب على “المقاومة” وبابًا مشرّعًا على الفتنة. هنا سيبلغ الخطاب الشعبوي ذروته، إذ ستتحوّل الجنازات والبيانات السياسية إلى ساحات تعبئة غير مسبوقة، ويُزج بالناس أكثر فأكثر في خنادق الطوائف.
هكذا، من الخامس إلى السابع، ومن الرابع عشر إلى السابع والعشرين، يرسم أيلول 2025 نفسه كـ”شهر الخطابات الشعبوية”. أربعة مواعيد مفصلية تكفي لإشعال البلد، ولتكريس اللبنانيين أسرى خطاب الطوائف بدل خطاب الدولة.
خلاصة ما ذُكر، أنّ لبنان يدخل أيلول عالقًا بين ماضيه وحاضره، بين ذاكرة الشهداء واغتيالات القادة. كل محطة تتحوّل إلى مناسبة للتجييش، فيما يغيب الحوار العقلاني وتغيب الدولة كمرجعية جامعة قادرة على إدارة الأزمات. ليبقى التحدي الأكبر المطروح اليوم هو ما إذا كان اللبنانيون سيبقون أسرى المنابر والشعارات، أم سيجرؤون يومًا على الخروج من سجن الطائفية لبناء وطن يليق بتضحياتهم وآمالهم.