هذا الواقع لم يعد مجرد تحليل أو استنتاج، بل أصبح حقيقة تتأكد يوماً بعد يوم من خلال الوقائع الميدانية والسياسية التي تفرض نفسها في فلسطين ولبنان وسوريا. ففي توزيع النفوذ، تتقدّم إسرائيل في الإمساك بالملفات المتصلة بهذه الدول، بحيث باتت اليد العليا لها في إدارة الميدان وترسيم المسارات. أمّا في ما يخص العلاقة مع إيران، فالغلبة تبقى واضحة للولايات المتحدة التي تتولى الإمساك بخيوط اللعبة الأساسية.
هكذا تتقاسم واشنطن وتل أبيب النفوذ، الأولى تضبط إيقاع العلاقة مع طهران، والثانية تفرض إيقاعها على الجبهات العربية الملاصقة لها.
في لبنان، نفذت الدولة منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الجزء الأكبر مما تعهّدت به. فقرار مجلس الوزراء القاضي بسحب السلاح غير الشرعي وحصره بيد الدولة وُضع على الطاولة ضمن مهلة محددة، فيما أظهر حزب الله التزاماً صارماً ببنود الاتفاق، بما في ذلك ضبط النفس وعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية والمتصاعدة. لكن هذه الالتزامات، على أهميتها، لم تُفلح في تعديل الموازين، إذ يبقى "المجهول الإسرائيلي" العامل الحاسم، فالمشروع أو الأجندة الاسرائيلية لا أحد يعرف تفاصيلها الكاملة، ولا الوجهة النهائية التي تسعى إسرائيل للوصول إليها.
وإذا كان لبنان يحاول الالتزام بما تعهد به، فإن المشهد في سوريا يعكس تناقضاً صارخاً. فدمشق، التي تخوض نقاشات وحوارات شبه يومية مع إسرائيل عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة، لا تزال تتعرض في الوقت نفسه لضربات عسكرية متكررة. هذا التناقض يُظهر أن إسرائيل لا ترى نفسها مقيّدة بأي التزامات سياسية أو تفاوضية، بل تسير بخطوات ثابتة نحو فرض مشروعها في المنطقة، تحت المظلّة الأميركية. وبذلك، يتضح أن إسرائيل اليوم ليست إسرائيل الأمس، فهي لم تعد تكتفي بردع محدود أو عمليات محسوبة، بل باتت تمارس سياسة توسعية هجومية أكثر اندفاعاً، هدفها تنفيذ مشروعها الاستراتيجي الطويل المدى، سواء في فلسطين أو لبنان أو سوريا.
أمام هذا الواقع، ماذا يفيد الانقسام الداخلي والخطاب التحريضي والمزايدات الطائفية والسياسية في لبنان؟ فالخلافات لا تضعف إسرائيل بل تضعف لبنان وحده، وتجعل منه ساحة مفتوحة أمام الاعتداءات. من هنا، يصبح المطلوب أن تلتف القوى السياسية كافة حول الدولة اللبنانية، وأن تُجمع على موقف واحد وراية واحدة، لأن أي تشرذم داخلي سيُترجم تلقائياً مكاسب إضافية لإسرائيل.
إذا، الصورة في المنطقة تتلخص بأن إسرائيل ماضية في مشروعها بلا تراجع، والولايات المتحدة تمنحها الغطاء الكامل. أما لبنان، فخيارُه الوحيد اليوم هو الوحدة الوطنية الصلبة، لأن ما يجري أكبر من الحسابات الصغيرة والمصالح الضيقة. فالوحدة وحدها قادرة على حماية ما تبقى من توازن، وإعطاء الدولة اللبنانية موقعاً يتيح لها الصمود في وجه العاصفة المقبلة.