يتعامل برّي مع القانون الحالي كما لو أنه نصٌّ مقدّس لا يُمسّ، معتبرًا أن فتح النقاش في هذا الملف سيؤدي إلى اهتزاز سياسي وتشريعي لا يحتمله لبنان. غير أنّ خلف هذا الموقف "المبدئي" تختبئ حسابات دقيقة، إذ إن القانون بصيغته الحالية يُبقي على التوازنات التي وُضعت عام 2017، ويمنح الثنائي الشيعي راحة انتخابية شبه كاملة في الجنوب والبقاع، فيما يُقصي قوى التغيير ويُجمّد إمكانيات المنافسة داخل الدوائر الحساسة.
وإذا كان الموقف من القانون ثابتًا لدى برّي، فإنّ القضية الأكثر إثارة للانقسام اليوم تتعلّق بمكان تصويت المغتربين. فالقانون الحالي ينصّ على أن المغترب يصوّت في الخارج لستة مقاعد مخصصة للاغتراب، بينما تطالب القوات اللبنانية بأن يصوّت المغترب في مكان نفوسه داخل لبنان، ليكون جزءًا من المعادلة الانتخابية الداخلية لا مجرد رقم رمزي في قارات بعيدة.
خلف هذا الطرح، لا يخفى أنّ القوات تسعى إلى الاستفادة من شبكتها المنظمة في الخارج، التي باتت تشكّل لها قاعدة انتخابية مؤثرة، وهو ما يجعلها من أكثر الأطراف تمسّكًا بتعديل القانون.
في المقابل، يرى برّي أنّ فتح هذا الباب سيعيد خلط الأوراق داخل معظم الدوائر، ويمنح القوى التي تملك حضورًا في الخارج قدرةً إضافية على التأثير في موازين القوى المحلية، في وقتٍ لا تستطيع فيه سائر الأحزاب مجاراة هذا الزخم.
وانطلاقًا من هذا الواقع، يرفع برّي شعار "الاستقرار" ليُبقي اللعبة على حالها، لأنّ أي تعديل قد يُحدث خروقات يصعب ضبط نتائجها. وهكذا، يتحوّل مفهوم "الاستقرار التشريعي" من مبدأ وطني إلى غطاءٍ للحفاظ على موازين النفوذ القائمة، لا لضمان انتظام عمل المؤسسات.
في العمق، يُظهر مسار النقاش أنّ القانون الحالي، الذي وُلد من تسويةٍ مؤقتة، تحوّل مع مرور الوقت إلى نظام دائم. فكل طرف يقدّسه لأنه يخدم مصالحه، لا لأنه يعكس روح العدالة والمساواة. فالقوات اللبنانية تدافع عن مصلحتها الاغترابية، والثنائي يحمي حضوره الداخلي، والتيار الوطني الحر يخشى اهتزاز توازنه في الدوائر المسيحية، فيما القوى التغييرية تذوب تحت ثقل قانون لا يمنحها فرصة حقيقية للعودة إلى المجلس النيابي.
لذلك، لم تعد المشكلة في من يربح ومن يخسر، بل في أن لبنان بات أسير قانون انتخابيّ جُمّد على مقاس اللحظة السياسية التي وُضع فيها، وأصبح حاجزًا أمام أي تطور ديمقراطي. وهكذا، تحوّل النقاش الانتخابي من مساحة إصلاح إلى ساحة دفاع عن مصالح، حيث يحمي كل فريق قانونه الخاص، بينما تتراجع فكرة الدولة التي يُفترض أن تكون المرجعية الوحيدة للجميع.
في الخلاصة، لا يحتاج لبنان قانونًا انتخابيًا يُحصّن الطوائف أو يكرّس نفوذ الأحزاب، بل قانونًا يعيد إنتاج الدولة على أسس المساواة والمواطنة. فحين تُصبح القوانين مقدّسة أكثر من الدستور، تُشلّ الديمقراطية، ويُغتال مبدأ الإصلاح في عقر دار المجلس النيابي.