بات واضحاً أنّ معركة حلب ستُحسَم عسكريّاً، وأنّ جميع الأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها تلك التي تساند «المعارضة» بشدّة باتت تقبل بذلك. وليست صيحات الاستنكار والتهويل التي تأتي من جانبها سوى جهدٍ لتجنّب فقدان أيّ رصيدٍ معنويّ أو سياسيّ لها لدى السوريين.
بات التفاوض الذي تعرفه أروقة الديبلوماسيّة هو مقايضة «مشاركة» السلطة «للمعارضة» في الحكم مقابل بداية الحديث عن إعادة الإعمار. مفاوضات لا تتسارع كما الوضع الميدانيّ على الأرض ولا تتعرّض صراحةً إلى «ما بعد حلب»، أي عن مصير منطقة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة وتشكّل «النصرة» قوّتها الضاربة حتّى أكثر من حلب، أو عن الحرب على «داعش» والموارد البشريّة التي تحتاج إليها مقارنةً مع ما يحصل في الموصل، أو عن مصير مشروع «قوّات الحماية الشعبيّة» الأحاديّ الجانب، أو أيضاً عن المناطق التي دخلها الجيش التركي وفرض «ولاة» لضبط أمورها.
المفارقة الكبرى هي أنّ هذا التفاوض الإعلاميّ يتخذ من المآسي الإنسانية للحرب موضوعاً وحيداً، وبشكلٍ مجتزأ، دون الخوض في السياسة سوى عبر تلميحات عن وجوب التوافق الدوليّ بشأن مصير الأرض والشعب السوريين، في الوقت ذاته الذي يتم التذكير فيه بصلافة أنّ السوريين هم الذين سيختارون مصيرهم وأنّ الأساس هو قرارات مجلس الأمن، مع أنّ هذه القرارات شديدة الوضوح بشأن وحدة الأراضي والدولة والسيادة وعدم طائفية البناء السياسيّ.
هكذا تتهرّب أوساط الديبلوماسية الإقليمية والدولية، بحثاً عن عائد على الاستثمار في الحرب السورية، من طرح أسئلةٍ جوهريّة تأتي من تداعيات المسار الذي أخذته معركة حلب. كيف ستُعيد تموضعها السياسي بعدما وقعت في فخّ جعلها حليفة موضوعيّة لـ «جبهة النصرة»؟ وكيف ستعيد إنتاج خطابها السياسيّ بين المطالبة القوية برحيل السلطة وبين «التشارك» معها في المرحلة الانتقالية؟ وكيف يمكن لهذا «التشارك» أن يكون في ظلّ الصراع المتعدد الجوانب القائم بين الدول الأوروبية وروسيا الاتحادية؟
تساؤلات «ما بعد حلب» هذه تخصّ الدول المتصارعة على سوريا وفيها، لكنها لا تخصّ حقاً أغلب السوريين، إذ إنّ «انتصار» السلطة وحلفائها في حلب يؤجّج مشاعر متناقضة لدى السوريين. فهو من ناحية يبعث الأمل في انتهاء الحرب السورية قريباً، لأنها بالضبط حربٌ عبثية لم تهدف حقاً سوى إلى تدمير سوريا وقتل السوريين وتهجيرهم، في منطقٍ التقى ضمنه جنون السلطة وخبث مدعي دعم «الثورة». ولكنه يخلق في المقابل شعوراً بالخيبة والإحباط من أنّ الاستبداد سينتصر وأنّ الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون لن يعيدهم حتى إلى ما كانوا عليه، بل إلى استبدادٍ أكثر قسوةً وأشدّ سطوة وشرذمةً للسوريين. إحباطٌ بقدر أن ينتهي المطاف لسوريا بدراما عنوانها «بقاء الأسد وحرق البلد معاً».
ليست هذه الخيبة جديدة للكثيرين. فهي موجودة منذ أن تحوّل نضال من أجل الحريّة والمواطنة في 2012 إلى حرب وفلتان وتبرير للتطرّف والطائفية تحت عنوانٍ لطالما استغلّ في غير مكانه «الثورة». ومنذ أن بدا واضحاً أنّ الدول الداعمة «للثورة» لم ترد يوماً لها أن تنتصر كثورة، أي كمشروع من أجل الحريات للجميع لا كانتصارٍ لأغلبية على أقلية.
هذه الخيبة قائمة، لكنّها لا تدعو بالضرورة إلى الإحباط، سوى لمن آمن بأنّ دولاً خارجية ستأتي له بحريات ومساواة في المواطنة. ما هو جوهريّ اليوم هو الحفاظ على الأرض والإنسان في سوريا وعزل كل ما هو طائفيّ ومتطرف على الجهات كافّة. وما هو معلوم أنّ طريق الحريّة لا يصنعه إلا السوريون وفقط عندما يشعرون بأنّهم مواطنون سوريون قبل أيّ شيء آخر. فمن منطق المواطنة لا يمكن لسوريا أن تكون برسم عائلة ولا يمكن أن تذهب التضحيات سدىً.
أغلب ثورات أوروبا في القرن التاسع عشر فشلت، إلا أنّ الانتصار كان في النهاية لحريّات المعنيين بها.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News